أول متحف في العالم وتاريخ منسي.. كتاب جديد عن بلاد ما بين النهرين

قبل حوالي 2500 عام، وفي ذروة مجد الإمبراطورية البابلية الحديثة (626-539 ق.م)، قامت أميرة تدعى إينيغالدي-نانا، تعيش في ما يسمى الآن العراق الحديث، بجمع عدد من القطع الأثرية بعناية، بما في ذلك تمثال، وحجر حدود (يُعرف باسم “كودورو” ويستخدم لترسيم الملكيات)، ورأس صولجان (رمز للسلطة والقوة). وهذه المقتنيات، التي تظهر عليها علامات الحفظ الواضحة، يعود تاريخها إلى فترات تمتد من حوالي 2100 ق.م إلى 600 ق.م. ويُعتقد عمومًا أن هذه المجموعة، التي تم تنظيمها وعرضها بشكل مقصود، كانت بمثابة أول “متحف” معروف في العالم.
ويروي كتاب “بين نهرين: بلاد ما بين النهرين القديمة وولادة التاريخ” -للباحثة المقيمة في أكسفورد موضي الرشيد- قصة بلاد ما بين النهرين القديمة (Mesopotamia – المنطقة التاريخية الخصبة الواقعة بين نهري دجلة والفرات) وهي فترة حاسمة في تاريخ العالم تُعرف أحيانًا بـ”العصر المنسي” ليس لقلة أهميتها بل لصعوبة الوصول إلى كنوزها المكتوبة بعد اندثار لغاتها لقرون طويلة.
وفي عرضها للمؤلَف، كتبت الأكاديمية لويز برايْك، الباحثة بقسم الكلاسيكيات والتاريخ القديم في جامعة سيدني الأسترالية، أن موضي تشير إلى العديد من “الأوائل التاريخية العالمية” التي شهدتها هذه المنطقة، والتي شكلت أسس الحضارة اللاحقة: أول نظام كتابة معروف للبشرية، وعجلة الخزاف، وأول سجل لإنتاج الجعة، وابتكارات زراعية كبرى كالري المنظم والمحراث.
المتحف الأول يُعد أول متحف معروف في العالم، وأمينته، إينيغالدي-نانا، من بين هذه الأوائل العديدة التي قدمتها بلاد الرافدين. وكانت إينيغالدي-نانا، ابنة آخر ملوك الإمبراطورية البابلية نبونيد، تشغل منصب الكاهنة العليا في معبد آلهة القمر “سين” في مدينة أور، وكانت تملك نفوذًا واهتمامًا ثقافيًا واضحًا.
وكان كل من الأميرة ووالدها مولعين بالتاريخ والآثار، حيث كان نبونيد من أوائل من مارسوا التنقيب المنظم وتركوا وصفًا دقيقًا لاكتشافاتهم. وقد وصفه بعض المستشرقين بأنه “أول عالم آثار”.
في جوهره، يعد كتاب “بين نهرين” قصيدة تحتفي بقوة التاريخ وقدرته على إلهام الحاضر، ويعرض كيف تعكس حياة شعوب الماضي واقعنا الحديث وتشكل حياتنا بطرق غير متوقعة.
10 قطع متحفية يدور الكتاب حول 10 قطع أثرية من مجموعة إينيغالدي-نانا. كل فصل يركز على قطعة واحدة، مثل رأس صولجان من الجرانيت يعود إلى الألفية الثالثة ق.م، يستخدمه الكتاب كمفتاح لعرض قضايا الحرب والعنف وطقوس الموت في حضارات الرافدين.
وفي الفصل الأول، يعرض الكتاب بانوراما لحضارات المنطقة (السومرية، الأكدية، البابلية، الآشورية)، ويقدم المؤلفة نفسها كدليل ورفيق شخصي للقارئ في هذه الرحلة التاريخية.
وتغطي الفصول التالية موضوعات الكتابة المسمارية، وتطور المدن، والقيادة، والتعليم، والعلوم، والمعتقدات، والاقتصاد، والحرب. ويختتم بفصل مخصص للأميرة إينيغالدي-نانا نفسها.
ويحتوي الكتاب على جدول زمني مفيد، إلا أن غياب الصور وخريطة للمنطقة يُعدّ من النواقص التي أضعفت من وضوح العرض.
حقائق تاريخية ماتعة يحتوي الكتاب على ثروة من الحقائق المثيرة: من تطوير دائرة الأبراج، ونظام رياضي معقد يشبه التفاضل والتكامل، إلى رسائل تل العمارنة، ولوح وفاة الإسكندر الأكبر، وممارسة العرافة.
وتعرض المؤلفة أيضًا النواحي اليومية للتاريخ، مثل المعاملات الاقتصادية والنصوص القانونية. وتشير إلى تحديات تعلم السومرية، وإمكانية العثور مستقبلًا على أدلة على وجود قيادات نسائية في التاريخ.
إعادة اكتشاف الثراء الثقافي تظهر المؤلفة إدراكًا حقيقيًا لحدود الأدلة الأثرية، وتدافع عن أهمية مواصلة البحث رغم التحديات. وتشير إلى أن تاريخ بلاد ما بين النهرين لا يزال مجهولًا لغير المتخصصين، مقارنةً بشهرة فلاسفة وأدباء الإغريق والرومان.
وتبرز شخصيات منسية مثل إنخيدوانا، أول مؤلفة معروفة في التاريخ، وسين-ليقي-ونيني محرر ملحمة غلغامش.
ويعود هذا الغياب إلى اندثار نظام الكتابة المسمارية حتى القرن التاسع عشر، مما أدى إلى فقدان مباشر للإرث الثقافي لآلاف السنين.
لكن هذا بدأ يتغير، وكتاب “بين نهرين” هو جزء من توجه جديد في علم الآشوريات يسعى لإنتاج أعمال رصينة يسهل الوصول إليها.
تغير الأزمنة في السنوات الأخيرة ظهرت ترجمات جديدة لملحمة غلغامش، وأعمال مبسطة عن ديانة وكتابة بلاد الرافدين، من أبرزها كتب إيرفينغ فينكل. وتشير موضي الرشيد إليه كمصدر إلهام وتأثير مباشر.
ويُعدّ كتاب “بين نهرين” مثالًا ناجحًا على المزج بين التخصص العميق والأسلوب الجذاب. وهو مقدمة متوازنة لعالم معقد، يعيد كنوز الشرق الأدنى القديم إلى دائرة الضوء.