استثمار الغاز والصناعات التحويلية.. العراق يسير نحو اقتصاد أكثر تنوعًا

العراق بين الريع النفطي ومساعي التنويع الاقتصادي
شكّل اكتشاف النفط في كركوك خلال عشرينيات القرن الماضي نقطة تحول في اقتصاد بلاد ما بين النهرين، حيث أسس ذلك لعصر جديد تحوّل فيه العراق إلى دولة تعتمد بشكل رئيسي على الذهب الأسود. لكن في المقابل، أدى الاعتماد المتزايد على العائدات النفطية إلى تعزيز الاقتصاد الريعي الذي ظل مهيمناً على مدى العقود الماضية.
تحديات الاقتصاد الريعي بعد 2003
بعد تغيير النظام في عام 2003، سعت الحكومات العراقية إلى تقليل الاعتماد على النفط، إلا أن هذه المحاولات واجهت تحديات كبيرة انعكست على الموازنات التشغيلية، حيث ظل الجانب الاستثماري محدودًا مقارنة بالإنفاق العام. ومع ذلك، تبنّت الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني نهجًا يهدف إلى تعزيز الاقتصاد غير النفطي عبر استثمار العوائد النفطية في قطاعات إنتاجية أخرى.
رؤية حكومية لتقليل الاعتماد على النفط
في هذا السياق، أوضح المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، أن “الاقتصاد العراقي يتمتع بمستوى ريعي مرتفع، حيث يشكل قطاع النفط نحو 50% من الناتج المحلي الإجمالي، ويمثل أكثر من 90% من إيرادات الموازنة السنوية، كما أن عائدات النفط تمثل 98% من إجمالي تدفقات العملة الأجنبية إلى البلاد”.
وأشار صالح إلى أن “البرنامج الحكومي المصادق عليه من قبل البرلمان عام 2022 وضع هدفًا استراتيجياً لرفع مساهمة الإيرادات غير النفطية في الموازنة إلى 20%، وذلك من خلال تنويع مصادر الدخل وتعزيز الاستدامة المالية”.
معايير تنمية الاقتصاد الوطني
ولتحقيق هذه الأهداف، يستند البرنامج الحكومي إلى معيارين رئيسيين: الأول يتمثل في استغلال الإنفاق العام الناتج عن عوائد النفط لتعزيز التنمية الاقتصادية، إذ تساهم هذه العوائد بشكل مباشر وغير مباشر في رفع الناتج المحلي الإجمالي، ما يخلق فرصًا لزيادة الإيرادات العامة.
أما المعيار الثاني، فيرتكز على توسيع الإنفاق الاستثماري وتنويع مصادر الدخل، مما يسهم في تحقيق نمو اقتصادي مستدام يصل إلى 5% سنويًا، خصوصًا خلال تنفيذ خطة التنمية الوطنية 2024-2025.
دور المشتقات النفطية والصناعات التحويلية
من جانبه، يرى الخبير المالي والاقتصادي، قصي صفوان، أن “تعزيز الاستثمار في قطاع المشتقات النفطية سيحدّ من استيرادها ويوفر موارد مالية إضافية، إلى جانب استغلال الغاز المصاحب بدلاً من حرقه، مما يدعم حاجات العراق المحلية ويعزز الصناعات البتروكيمياوية”.
وأضاف صفوان أن “الحكومة ماضية في تفعيل هذه القطاعات عبر الاستثمار في القطاع الخاص، ما يعزز الإيرادات غير النفطية”. كما أكد أن “تنشيط الاستثمار في القطاعات الصناعية والتجارية والزراعية والسياحية سيعزز فرص التنوع الاقتصادي، خاصة مع زيادة القدرة على الإنفاق الاستثماري بفضل إيرادات البترودولار عندما يتجاوز سعر النفط 70 دولارًا للبرميل”.
تطوير قطاع النفط والالتزام بسياسات أوبك
منذ 2003، بذلت الحكومات العراقية جهودًا كبيرة لتطوير قطاع النفط عبر جولات التراخيص، التي مكّنت الشركات العالمية من الاستثمار في الحقول النفطية والغازية، ما أدى إلى رفع مستويات الإنتاج والتصدير.
وفي هذا السياق، نفذت وزارة النفط ست جولات تراخيص لتطوير الحقول المنتجة وغير المطورة، إلا أن سقف الصادرات ما زال مقيدًا بالتزامات العراق مع منظمة “أوبك+”، حيث يبلغ حجم التصدير الحالي 3.3 ملايين برميل يوميًا.
أما على مستوى الاحتياطيات، فقد أوضح الخبير النفطي، كوفند شيرواني، أن “العراق يحتل المرتبة الخامسة عالميًا باحتياطي نفطي يصل إلى 153 مليار برميل، كما يمتلك احتياطيات غازية تقدر بـ132 تريليون قدم مكعب، مما يجعله في المرتبة الـ13 عالميًا”.
استثمار الغاز لتعزيز الاقتصاد
وفي إطار تعزيز مصادر الدخل، وضعت وزارة النفط خططًا لاستثمار الغاز المصاحب بالشراكة مع شركات عالمية، ومن بين المشاريع الكبرى اتفاقية مع شركة “توتال” الفرنسية لاستثمار 600 مليون قدم مكعب قياسي يوميًا من خمسة حقول نفطية في البصرة ضمن مشروع “تنمية الغاز المتكامل”، والذي سينفذ على مرحلتين، الأولى بطاقة 300 مليون قدم مكعب يوميًا خلال ثلاث سنوات، والثانية بنفس الطاقة بعد خمس سنوات.
كما أعلنت الوزارة عن مشروع “غاز أرطاوي” المعجل، الذي سيضيف 50 مليون قدم مكعب يوميًا بحلول نهاية العام، إضافة إلى عقود تطوير حقلي المنصورية في ديالى وعكاز في الأنبار.
آفاق 2028: نحو إنهاء حرق الغاز
تطمح وزارة النفط إلى إنهاء عمليات حرق الغاز بالكامل بحلول عام 2028، ما سيساهم في تقليل الاعتماد على استيراد الغاز، ويدعم توليد الطاقة الكهربائية، ويعزز إيرادات الدولة، مما يمثل خطوة محورية في مساعي العراق نحو اقتصاد أكثر تنوعًا واستدامة.
الكلمات الدلالية: