الورّاقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية.. يهودي يكتب القرآن ومسيحي ينسخ تفسير الطبري مرتين و170 امرأة خطّاطة بقرطبة

الورّاقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية.. يهودي يكتب القرآن ومسيحي ينسخ تفسير الطبري مرتين و170 امرأة خطّاطة بقرطبة

نقل أبو الفَرَج محمد بن إسحق البغدادي الورّاق المعروف بالنديم أو ابن النديم (ت 384هـ/995م) -في كتابه ‘الفِهْرِسْتْ‘- عن الفيلسوف المسيحي يحيى بن عدي المنطقي (ت 364هـ/975م) أنه أخبره قائلا: “نسختُ بخطي نسختين من التفسير للطبري (ت 310هـ/922م) ‏وحملتهما إلى ملوك الأطراف، وقد كتبت من كُتُب المتكلمين ما لا يُحصَى”!!

لعل هذا الخبر بالغ الغرابة؛ لكنه -على أية حال- يشير إلى أن صناعة المعرفة بلغت من القوة والانفتاح في الحضارة الإسلامية مبلغا عظيما جعل احترافها متاحا حتى لغير المسلمين دون أن يقابَل بأي رفض أو استنكار، حتى وإن كان ذلك الاحتراف متصلا بميدان شديد الخصوصية في الإسلام، ألا وهو تفسير القرآن الكريم! وما ذاك إلا لأن طبائع الصنائع الاحترافية تفرض أدواتها الموضوعية والمهنية، مُعْمِلَةً نظامَها الصارم القائم على طرد البضاعة الرديئة وتمكين البضاعة الجيدة، بصرف النظر عن الانتماء الديني والطبقي لصاحبها.

إن ظاهرة “الوِراقة والوراقين” -أو صناعة نشر الكتاب في الحياة العلمية الإسلامية- من أجل وأبلغ الظواهر المعرفية التي أهدتها الحضارة الإسلامية إلى التجربة الحضارية الإنسانية، وقادت -مع تطورها واتساعها- إلى وفرة الكتب فمهّدت بذلك الطريق لظاهرة أخرى لا تقل عنها محورية وريادية وهي ظاهرة تكوين المكتبات العامة والخاصة، كما أنتجت أغنى تراث علمي عرفته البشرية حتى العصر الحديث وما شهده من انفجار معرفي بفضل اختراع آلة الطباعة في سنة 854هـ/1450م على يد العالِم الألماني يوهان غوتنبرغ (ت 863هـ/1468م).

وبقدر ما كان ذلك الاختراع فتحا تقنيا غيّر وجه التاريخ الثقافي للعالَم؛ فإنه سجل أيضا بداية النهاية لتلك المنظومة الثقافية الفريدة التي كانت تُدعَى “الوِراقة”، والتي ستُدخِلنا هذه المقالةُ إلى أروقة تاريخها لنجول في عالمها الذي كان -على مدار أكثر من 12 قرناً- نابضا بالحيوية والإبداع، وحافلا بالجدل والصخب الثقافي، ولا يخلو من الحقائق المدهشة والطريفة.

وفي جولانا في عالم الوراقين؛ سنرصد كيف دارت ماكينة إنتاج الكتاب في العالم الإسلامي عبر جهود مجتمع “الورّاقين” الذي ضم في عضويته كافة أطياف المجتمع الفكرية والأدبية وطوائفه الدينية والمذهبية، كما احترف فيه مهنةَ نسخ الكتب علماءُ كبار وأمراء مشاهير وأمهاتٌ ربات بيوت سعياً لتحصيل دخل يوفر لقمة عيش كريم.

وبحسب هذه المقالة؛ فقد عَرَفت هذه المنظومة المعرفية “صناعةَ الكتاب” بشقيه: “الأصيل” المؤلَّف و”الدخيل” المترجَم، كما وُضعت لعمل هذه الصناعة ضوابط وخُصصت لمنتجاتها أسواق، وتحصلت منها لأصحابها أموال وثروات، وازدهرت حولها صناعات مسانِدة وتطورت خدمات مساعِدة في عملية إنتاج الكتاب مثل صناعة الأقلام والمداد وكيمياء تركيب الأحبار من مختلف الألوان، وتفننوا في ذلك حتى تمكنوا من صناعة حبر يُقرأ مكتوبه ليلا ولا يُقرأ نهارا!

وإلى ذلك؛ تأسست على هوامش صناعة الوراقة منتديات معرفية للنقاش الفكري والإمتاع الأدبي، فكانت تلتقي فيها رجالات العلم والثقافة والأدب لتعقد مجالس الإفادة والإفاضة، متصرفةً في ضروب الفكر، ومتجولةً في دروب المعرفة، وخائضةً في فنون المعارف نقاشا ونقدا وأخذا وردا.

أمة اقرأ
جاء الإسلام وقد عرف العرب القراءة والكتابة على نطاق ضيق، والترجمة من اللغات الأخرى في حدود أضيق؛ ولكن الدين الجديد -بما تضمنه القرآن والسنة من إشادة بالعلم والعلماء- كان من أول لحظة إيذانا بميلاد “أمة اقرأ”، التي ستملأ الأرض علما ومعارف وتشغل الناس ثقافة وآدابا.

فقد اكتمل جمع القرآن وتدوينه في خلافة أبي بكر الصديق (ت 13هـ/635م) فكان ذلك إشارة لأهمية التدوين العلمي في حياة الأمة؛ ولكن القرن الأول بأجمعه ظل قرنا للرواية الشفهية لنصوص الإسلام (قرآنا وسنة) ولغته العربية، ولم يشهد حركة تدوين للمعارف المنبثقة منهما إلا في حالات محدودة.

ومع بزوغ شمس القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي الذي يُعرف بـ”عصر التدوين”؛ تفجرت ينابيع العلوم واكتملت دورة إنتاجها الشفهي، فكان لا بد من استيعابها في أطر صلبة تنقلها من الصدور إلى السطور، فتحفظها من الضياع وتجعلها قابلة للتداول بين الناس والتوارث بين الأجيال.

وقد أدت فتوح الإسلام إلى الاختلاط بحضارات مغايرة ونُظم ثقافية متباينة في الملل والنِّحل في العراق وفارس والشام ومصر؛ فجرت مع أصحابها مناظرات جدلية ومثاقفات علمية، واحتِيج إلى الترجمة عن لغاتها والاقتباس من مناهجها في الحِجاج بما يعين على المغالبة الثقافية، فازدهرت سوق الترجمة وتوسعت حتى شملت آنذاك أكثر من عشر لغات، فازداد بذلك نشاط التدوين والنشر اتساعا.

وتعزَّز ازدهار الكتابة والتدوين بعاملين مهمين: أولهما المكانة العالية التي حازها “كتّاب الدواوين” (وزارات الدولة وإداراتها) منذ العصر الأموي وازدادت أهميتها أيام ورثتهم العباسيين؛ وثانيهما استخدام الورق في الكتابة مع مطلع العهد العباسي، ذلك الاستخدام الذي ترسخ ببناء أول مصنع للورق ببغداد أيام هارون الرشيد في سبعينيات القرن الثاني.

وبذلك عرف الناس “صناعة الكتاب” بشقيه: “الأصيل” المؤلَّف و”الدخيل” المترجَم، ثم سرعان ما أصبحت “صناعة الكتاب” صنعة من صنائع المدنية في الحضارة الإسلامية تُدعى “الوِراقة”؛ فتخصصت فيها طائفة وافرة تسمى “الوراقين” ضمت في عضويتها كافة أطياف المجتمع الفكرية والأدبية، وطوائفه الدينية والمذهبية؛ ووُضعت لها ضوابط وأعراف، وخُصصت لها أماكن وأسواق، ونشأت في فضائها فروع وتخصصات، وتحصلت منها لأصحابها أموال وثروات.

عميد الوراقين
من الناحية التاريخية؛ ارتبطت “الوراقة” -في بدئها ‏بوصفها مهنة- باحتراف نسخ القرآن الكريم تكسُّبًا، فقد ذكر أبو الفرج محمد بن إسحق البغدادي المعروف بالنديم (ت 384هـ/995م) -في كتابه ‘الفهرست‘- أن الناس “كانت تكتب المصاحف بأجرة”، ووثّق لنا أسماء عدد ممن كانوا معدودين ضمن “كُتّاب المصاحف”.

وكان أول من عُرف بتخصصه في وِراقة المصاحف عمرو بن نافع (ت بعد 60هـ/681م) مولى عمر ‏بن الخطاب‏ (ت 23هـ/645م)، لكن النديم عزا إلى المؤرخ محمد بن إسحق (ت 151هـ/769م) أن “أول من كتب المصاحف في الصدر الأول -ويوصف بحسن الخط- خالد بن أبي الهياج (ت بعد 99هـ/719م)”، لعمله “ورّاقا” للخليفة الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ/716م).

بيد أن أول من أطلِق عليه لقب “الورّاق” -فاستحق بذلك علينا أن ندعوه “عميد الوراقين”- هو أبو رجاء مطر بن طهمان الخراساني البصري (ت 129هـ/748م) الذي اشتهر بـ”مطر الوراق”، فقد ذكر الإمام جمال الدين المِزِّي (ت 742هـ/1341م) -في ‘تهذيب الكمال‘- أنه “سكن البصرة وكان يكتب المصاحف”، ولذا كان يُلقَّب بـ”المصاحفي” كما نجد عند الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852/1449م) في ‘لسان الميزان‘.

كما أن معاصره مُساوِر بن سوّار بن عبد الحميد الكوفي (ت نحو 150هـ/768م) كان يعرف بـ”مساور الوراق”، حسبما في ترجمته عند الإمام علاء الدين مُغْلطاي بن قليج (ت 762هـ/1361م) في ‘إكمال تهذيب الكمال‘، وقد وصفه بأنه “من أصحاب الحديث، روى عن صدْر من التابعين، روى عنه وجوه أصحاب الحديث”. ‏‏

ومع أواسط القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي؛ انضم إلى نسخ القرآن جمعُ الحديث النبوي، وتوثيقُ فتاوى الصحابة والتابعين، وتدوينُ لغة العرب وأشعارها؛ فظهرت “مصنفات” في شتى العلوم، ومن أوائل تلك المؤلفات -مما وصل إلينا نصُّه موّثقَ النسبة- “الموطأ” للإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م)، و”الرسالة” للإمام الشافعي (ت 204هـ/819م)، و”المبسوط” للإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ/805م)، و”الكتاب” في النحو لسيبويْه الفارسي (ت 179هـ/795م)، وقاموس “العين” للخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي (ت 175هـ/791م)، و”مختارات” من أشعار العرب مثل “المفضليات” و”الأصمعيات”.

تخصص لافت
وأدت كثرة طلاب العلم وازدياد انشغال العلماء بإقبالهم على التأليف إلى اتخاذ بعض الأئمة “ورّاقاً” أو ‏”كاتباً” خاصا به، كما اتخذ كل شاعر “راوية” لديوانه؛ فكان مثلا حبيب بن أبي حبيب المدني (ت 218هـ/833م) وراقا للإمام مالك، فاشتهر بـ”كاتب مالك” وبأنه “كان يقرأ الموطأ للناس على مالك في بعض الأوقات”؛ وفقا لابن أيْبَك الصفدي (ت 764هـ/1362م) في ‘الوافي بالوفيات‘. وعُرف محمد بن سعد (ت 230هـ/845م) بأنه “كاتب ‏‏الواقدي” المؤرخ (ت 207هـ/822م).‏

وقد انتشرت لاحقا هذه العادة حتى عمّت جميعَ طبقات العلماء والأدباء بل وحتى الخلفاء والأمراء، فصار مألوفا لدى أحدهم اعتماد وراقِين محددين ‏كما يعتمد المؤلفون الكبار في عصرنا ناشرا معينا لطباعة كتبهم. فقد كان محمد بن أبي حاتم الرازي (ت بعد 256هـ/870م) وراقا للإمام البخاري (ت 256هـ/870م) فـ”كان ملازمَه سفرا وحضرا فكتَب كتبَه”؛ طبقا للحافظ ابن حجر في كتابه ‘تغليق التعليق‘.

وكان أحمد بن محمد النِّباجي (ت بعد 333هـ/945م) وراقا للإمام المحدِّث يحيى بن معين (ت 233هـ/848م)، وعنه يروي مثلا القاضي أبو بكر أحمد بن مروان الدِّينَوَري المالكي (ت 333هـ/945م) فيقول: “حدثنا أحمد بن محمد النِّباجي ورّاق يحيى بن معين”. وذكر جلال الدين السيوطي (ت 911هـ/1505م) -في ‘تاريخ الخلفاء‘- أن الخليفة العباسي المعتمِد (ت 279هـ/892م) “كان له وراق يَكتب شعره بماء الذهب”!

وقد يكون لبعضهم وراقان كما كان للمؤرخ الواقدي ولأبي عُبيد القاسم بن سلّام (ت 224هـ/839م) مؤلف كتاب “الأموال”، ولأبي داود (ت 275هـ/891م) صاحب “السُّنن” وراقان أحدهما كان مقيما ببغداد والثاني بالبصرة.

وكان أيضا للجاحظ (ت 255هـ/869م) وراقان أحدهما يبدو أنه كان ببغداد وهو: أبو القاسم عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية البغدادي (ت 319هـ/931م)، الذي قال الإمام السمعاني (ت 562هـ/1167م) -في كتابه ‘الأنساب‘- إنه “كان وراق الجاحظ، من أهل بغداد”؛ والثاني: أبو يحيى زكريا بن يحيى، وقد ذكره أبو علي القالي (ت 356هـ/967م) -في ‘الأمالي‘- قائلا عن شعر أورده فيه: “فكذا وجدتُه بخط ابن زكريا ورّاق الجاحظ”.

تألق وازدهار
وبحلول نهاية القرن الثاني الهجري؛ كانت “صناعة الوِراقة” -بتعبير المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) في ‘المقدمة‘- قد بلغت شأواً بعيدا في الانتشار وسلكت طريقها نحو الازدهار في القرن الثالث/التاسع الميلادي، بحيث تحددت فروعها -وفقا لابن خلدون- بأنها شاملة “للانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكُتبية والدّواوين” مثل بيع الورق والقراطيس.

وسرعان ما صارت لصناعة الوِراقة “دكاكين” أو “حوانيت” تضمها “أسواق الوراقين” التي “اختصّت بـ[ها] الأمصار العظيمة العمران”، وبعضهم عمل في المكتبات “الرسمية” الكبرى بدول العالم الإسلامي مثل “بيت الحكمة” الذي أسسه العباسيون في بغداد، و”دار العلم” في القاهرة أيام الفاطميين، و”خزانة العلوم” بقرطبة في دولة الأمويين بالأندلس.

وقبل ابن خلدون بأربعة قرون؛ حدد أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) -في رسالة لأحد أصدقائه وردت في كتابه ‘الإمتاع والمؤانسة‘- بعض أدوات صنعة الوراقة ومشمولاتها الداخلة في عمل الناسخين المجوِّدين؛ فذكر منها “الحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة ‏والتصحيح”.‏ على أنه في عصور تراجع الجودة في صناعة الوراقة صار معروفا أن “غالب من يكون خطه حسنا لا يخلو عن الجهل”؛ طبقا للإمام بدر الدين العَيْني (ت 855هـ/1451م) في ‘عمدة القاري شرح صحيح البخاري‘.

ويكفي أن نتذكر أن الجاحظ -حسبما رواه صديقه الشاعر أبو هفّان العبْدي (ت 257هـ/871م) ونقله النديم في ‘الفهرست‘- كان “يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر”!! ووصف الرحالة المقدسي البشاري (ت 380هـ/991م) -في ‘أحسن التقاسيم‘- أهلَ الأندلس بأنهم “أحذق الناس في الوراقة”!

فلذلك ازدهرت صناعتها في الأندلس على نحو بالغ الغرابة، حتى إن القاضي ثم الوزير أبا المطرف عبد الرحمن بن محمد ابن فُطَيْس القرطبي (ت 402هـ/1012م) “كان له ستة وراقين ينسخون له دائما، وكان قد رتّب لهم على ذلك راتبا معلوما”؛ حسب الإمام ابن بَشْكُوَال (ت 578هـ/1182م) في ‘الصلة في تاريخ أئمة الأندلس‘.

وقد عمل في هذه المهنة آلاف الوراقين من الرجال والنساء، ومن جميع طبقات المجتمع من كبار العلماء والأدباء وأبناء الملوك السابقين -بل والأمراء- إلى الموالي والأرقاء. فمن مشاهير العلماء الذين عملوا وراقين تكسُّبا: الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) الذي كان ربما نسخ الكتب بأجرة ليسدّ فاقته أيام طلبه العلم.

وقد أورد في ذلك الإمام أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ/1040م) -في ‘حلية الأولياء‘- تفاصيل قصة لطيفة، خلاصتها أن أحد أصحاب الإمام أحمد أراد مساعدته بمال حين رأى حاجته الماسة إليه، لكن أحمد رفض أخذ المال على وجه التبرع أو القرض، فما كان من صاحبه إلا أن قال له: “تكتب لي [كتابا] بأجرة؟ قال: نعم، (…) فأخرجتُ [له] دينارا (= اليوم 200 دولار أميركي تقريبا).. وجئتُ بورق وكاغد فكتب لي، فهذا خطه”!

وقد عمل في هذه المهنة آلاف الوراقين من الرجال والنساء، ومن جميع طبقات المجتمع من كبار العلماء والأدباء وأبناء الملوك السابقين -بل والأمراء- إلى الموالي والأرقاء. فمن مشاهير العلماء الذين عملوا وراقين تكسُّبا: الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) الذي كان ربما نسخ الكتب بأجرة ليسدّ فاقته أيام طلبه العلم.

وقد أورد في ذلك الإمام أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ/1040م) -في ‘حلية الأولياء‘- تفاصيل قصة لطيفة، خلاصتها أن أحد أصحاب الإمام أحمد أراد مساعدته بمال حين رأى حاجته الماسة إليه، لكن أحمد رفض أخذ المال على وجه التبرع أو القرض، فما كان من صاحبه إلا أن قال له: “تكتب لي [كتابا] بأجرة؟ قال: نعم، (…) فأخرجتُ [له] دينارا (= اليوم 200 دولار أميركي تقريبا).. وجئتُ بورق وكاغد فكتب لي، فهذا خطه”!

صنعة علمائية
ومن مشاهير العلماء الوراقين تكسُّباً الإمامُ النحوي القاضي المعتزلي أبو سعيد السيرافي (ت 368هـ/977م) الذي يحدثنا السمعاني -في ‘الأنساب‘- أنه “كان زاهدا لا يأكل إلا من كسب يده، وكان لا يخرج إلى مجلس الحُكْم (= القضاء) ولا إلى مجلس التدريس في كل يوم إلا بعد أن ينسخ عشر ورقات، يأخذ أجرتها عشرة دراهم (= اليوم 12 دولارا أميركيا تقريبا) يكون قدر مؤنته، ثم يخرج إلى مجلسه”.

وعُرف إمام الحنابلة في زمنه ابن مروان البغدادي (ت 403هـ/1013م) باحترافه الوراقة حتى صارت لقبا له، فها هو الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) يترجم له -في ‘تاريخ بغداد‘- فيصفه بأنه “الوراق الحنبلي”، ويضيف أنه “كان مدرس أصحاب أحمد وفقيههم في زمانه.. وله المصنفات العظيمة”،

ويخبرنا الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) –في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- أنه “كان يتقوَّت من النسخ ويكثر الحج”، ومثله في ذلك “الإمام الزاهد القدوة الصادق أبو أحمد النَّيْسابوري الجُلودي (ت 368هـ/979م) راوي ‘صحيح مسلم‘… [الذي] خُتم بوفاته سماع كتاب مسلم…؛ وكان يُوَرِّق بالأجرة ويأكل من كسب يده، وكان ينتحل (= يتَّبع) مذهب سفيان الثوري (ت 161هـ/778م) ويعرفه”.

وأورد الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- أن الإمام أبا حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م) “خرج عن الدنيا بالكلية وأقبل على العبادة وأعمال الآخرة، وكان يرتزق من النسخ”، وذكر ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في ‘المنتظم‘- أن الإمام ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119م) وصف ذات يوم ما عاشه من ضيق حال فقال: “وعانيتُ من الفقرِ والنَّسْخ بالأجرة”، فهذا تصريح منه بأنه انضم في حقبة من حياته إلى مجتمع الوراقين.

كما عدُّوا من أعلام الوراقين المؤرخ الفقيه شهاب الدين النويري الشافعي (ت 733هـ/1333م) مؤلف السفر العظيم «نهاية الأرب في فنون الأدب»؛ فقد ذكر المؤرخ ابن تَغْرِي بَرْدي (ت 874هـ/1469م) -في كتابه ‘النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة‘- أنه “كان فقيها فاضلا مؤرخا بارعا، وله مشاركة جيدة في علوم كثيرة وكتب الخط المنسوب؛ قيل إنه كتب «صحيح البخاري» ثماني مرات، وكان يبيع كل نسخة من البخاري بخطه بألف درهم (= اليوم 2000 دولار أميركي تقريبا)، وكان يكتب في كل يوم ثلاث كراريس (= 30 صفحة: الكراسة 10 ورقات)”!!

ومن الأمراء الذين “احترفوا” الوراقة -وهم في السلطة- السلطانُ الشهيد نور الدين زنكي (ت 569هـ/1173م) الذي ذكر الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه “كان يأكل من عمل يده: ينسخ تارة، ويعمل أغلافا (= أغلفة) تارة”!

ومن أبناء الملوك الأمير الأندلسي شرف الدولة يحيى بن المعتمد بن عباد اللخمي (ت بعد 500هـ/1106م) الذي مارس نسخ الكتب بعد زوال سلطان عائلته بإشبيلية، ووصفه شهاب الدين المقّري (ت 1041هـ/1631م) -في ‘نفح الطيب‘- بأنه “مثابر على نسخ الدواوين مفتِّحٌ فيها من خطه زهرَ الرياحين”. ووصلتنا أجزاء من نسخة “الموطأ” التي كتبها لسلطان المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين (ت 537هـ/1142م)

أمهات وراقات
وقد عملت المرأة إلى جانب الرجل في مهنة الوراقة ناسخةً أو مساعِدةً؛ ففي الأندلس يروي المؤرخ عبد الواحد المراكشي (ت 647هـ/1249م) -في ‘المُعْجِب في تلخيص أخبار المَغْرب‘- عن المؤرخ الأندلسي أحمد بن سعيد ابن أبي الفياض (ت 459هـ/1068م) أنه “كان بالرَّبَض (= الجانب) الشرقي من قرطبة مئة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، هذا ما في ناحية من نواحيها فكيف بجميع جهاتها؟!”.

ووُصِفت ورْقاء بنت ينْتان (ت بعد 540هـ/1145م) -وهي سيدة فاسية أندلسية الأصل- بأنها من الناسخات المُجيدات، فقد ترجم لها العلامة أحمد بن القاضي المِكناسي (ت 1025هـ/1616م) في ‘جذوة الاقتباس في ذكر مَن حَلّ مِن الأعلام مدينةَ فاس‘، وقال إنها “كانت أديبة شاعرة صالحة حافظة للقرآن بارعة الخط”.

وفي العراق شرقا؛ ذكر أبو العلاء المعري (ت 449هـ/1058م) -في “رسالة الغفران”- الجاريةَ “توفيق السوداء التي كانت تخدم بدار العلم ببغداد” أيام البويهيين، وكان من مهمتها مساعدة الوراقين بأن تُخرِج “الكتبَ للنُّسّاخ”، ولعلها كانت تورّق أيضا.

‏وفي عام 1347هـ/1928م؛ حدّث الكاتب والمؤلف العراقي عبد اللطيف جلبي (ت 1365هـ/1945م) أنه رأى بجامع الحيدرخانة ببغداد نسخة من قاموس “الصحاح” لأبي نصر الجوهري (ت 393هـ/1004م) نسختها امرأة تدعى مريم بنت عبد القادر (عاشت في القرن 6هـ/الـ11م)، وكتبت في نهايتها عبارة مؤثرة هذا نصها: “أرجو من وجد فيه سهوا أن يغفر لي خطئي، لأني كنت بينما أخط بيميني كنت ‏أهز مهد ولدي بشمالي”!!

وروى المؤرخ الصفدي -في ‘الوافي بالوفيات‘- أن أبا العباس بن الحُطيئة الفاسي (ت 560هـ/1165م) “نسخ الكثير بالأجرة [في مصر].. وعلّم ‏زوجته وابنته الكتابة فكانتا تكتبان مثل ‏خطه سواء، فإذا شرعوا في نسخ كتاب أخذ كل واحد جزءا وكتبوه، فلا يفرِّق بين ‏خطهم إلا الحاذق”.‏

اشتملت حواضر الإسلام الكبيرة على صنوف الأسواق الموَّزعة وفقا لما تعرضه من بضائع أو تقدمه من صنائع؛ وكان من ضمن تلك الأسواق “سوق الوراقين” أو “أصحاب الورق” أو “أصحاب القراطيس”؛ حسب كل إقليم وتسميته للوراقة.

وقد ذكر الجغرافي المؤرخ اليعقوبي (ت 284هـ/897م) -في كتابه ‘البلدان‘- ضاحية ببغداد تسمى “ربض وضّاح”، ثم قال إن فيها أسواقا “وأكثر مَن فيـ[ـها] في هذا الوقت (= القرن الثالث الهجر/التاسع الميلادي): الوراقون أصحابُ الكتب، فإن به أكثر من مئة حانوت للوراقين”!!

ويخبرنا الذهبي في ‘العِبَر في خبر من غَبَر‘- بأنه في 26 من شوال سنة 740هـ/1339م “وقع بدمشق حريقٌ كبير… [فانْتَشرَ] إلى عند سوق الكتب واحترق سوق الوراقين”. وسبقت الإشارة إلى الجانب الشرقي من قرطبة وما كان فيه من عشرات النسوة الوراقات، اللاتي يرجَّح أنهن كُنّ يعملن في حوانيت أعِدّت للوراقة.

مهنة مفتوحة
وكما لم تقتصر دكاكين الوراقة على انتساخ كتب الثقافة الإسلامية بل أضافت لها الكتب المترجمة؛ فإن طائفة الوراقين اتسع ‏رحبها لضم وراقين من جميع الملل والنِّحل، لا ليتخصصوا في نسخ ونشر كتب معتقداتهم وأديانهم وإنما لينسخوا أيضا بأيديهم كتب ‏الإسلام ويبيعوها!‏

ومن ذلك الحكاية التي رواها الإمام البيهقي (ت 458هـ/1067م) -في ‘دلائل النبوة‘- وخلاصتها أن أحد المثقفين اليهود كان “حسن الخط” فأسلم وروى ‏قصة إسلامه للخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م)؛ فقال: “عمَدتُ إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، ‏وأدخلتها إلى الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموْا بها فلم يشتروها؛ فعلمت أن هذا كتاب محفوظ ‏فكان هذا سبب إسلامي”‏.

ولم يصلنا أن كتابة هذا اليهودي للمصحف استجلبت إنكارا من الخليفة أو من الوراقين المسلمين، رغم اشتهار قصته التي حكاها في بلاط الخلافة الإسلامية في عز قوتها، بل إن محدِّثا عظيما مثل البيهقي أوردها -مؤكدا لصحتها- في سياق البرهنة على حفظ القرآن الكريم من التبديل والتحريف حتى ولو كان كاتبه من غير المسلمين.

‏وقد نقل النديم -في ‘الفهرست‘- عن الفيلسوف المسيحي يحيى بن عدي المنطقي (ت 364هـ/975م) قوله له “نسختُ بخطي نسختين من التفسير للطبري ‏وحملتهما إلى ملوك الأطراف، وقد كتبت من كتب المتكلمين ما لا يُحصى”.‏

ومن الوراقين من تخصص في نسخ الكتب الصغيرة المعدة للتنقل والسفَر -وهي المسماة اليوم “كتب الجيب”- التي كانوا يدعونها “الكتب اللِّطاف” أو “النسخة السفـَرية”؛ مثل الوراق أبي الفضل عبد الكريم بن أحمد ابن جليق التغلبي ‏الجشمي (ت 640هـ/1242م) الذي قال المؤرخ كمال الدين ابن الشعار الموصلي (ت 654هـ/1256م) -في ‘قلائد الجمان‘- إنه رآه في حلب “ينسخ الكتب اللطاف ‏والمتوسطة بالأجر..، ومن ذلك معيشته وارتزاقه”.

كما شاعت كتابة “المصاحف اللطاف”‏ فكان ممن تخصص فيها أبو حري الكوفي (ت بعد 227هـ/842م) الذي يفيدنا النديم -في ‘الفهرست‘- بأنه “كان يكتب المصاحف اللطاف في أيام المعتصم”، وقال ابن حجر (ت 852هـ/1448م) -في ‘الدرر الكامنة‘- إن إسماعيل الزُّمُكْحُلُ (ت 788هـ/1386م) “كتب من المصاحف اللطاف شيئا كثيرا، وخطه غاية في الحسن مَرْغُوبٌ فيه”!

ومع العوائق التي يفرضها إرهاق العمل اليدوي من بطء وتعثُّر فإن الوراقين تميزوا بغزارة الإنتاج وتعدد “طبعات” النشر، حتى إن الكتاب الواحد كانت تتداول منه مئات النسخ في الوقت ذاته. ويكفي مثالا على ذلك أنه رغم ندرة كتاب ‘الفرق بين النبي والمتنبي‘ للجاحظ -حتى إنه كان ينادى بالبحث عنه في موسم الحج- فإن ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) يقول عنه في ‘معجم الأدباء‘: “ولقد رأيت أنا منه نحو مئة نسخة أو أكثر”!

ومِن العلماء مَن كان مولعا بالإكثار من نسَخ كتاب معيّن، كما يُذْكَر عن الصوفي أبي الغوث القشاش التونسي (ت 1031هـ/1622م) الذي كان “لا يقبل هدية من أحد إلا إذا أهدى له البخاري، فكان يقبله ويقابل مهديه بأنواع الإحسان…، ومن جملة ما وُجد في خزانة كُتبه ألف نسخة من البخاري”؛ وفقا للمؤرخ ابن فضل الله المُحِبِّي الحموي (ت 1111هـ/1699م) في ‘خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر‘.

توسع شامل
تجاوز الوراقون نطاق الإنتاج العلمي والأدبي الواقعي إلى صناعة الكتب الأدبية الخيالية، سواء منها ما كان لغرض تعليمي يستهدف الأطفال، أو ذاك الذي سعى إلى توفير مادة خفيفة تطالَع تفكُّهاً لملء أوقات الفراغ؛ ولذلك كان للقصص والروايات كتابها المتخصصون في إبداعها، إضافة إلى دواوين الشعر الذائعة وكافة “كتب الأدب المطلوبة”؛ حسب تعبير لأحد كبار الوراقين نقله الخطيب البغدادي في ‘تاريخ بغداد‘.

فها هو النديم يحدثنا -في ‘الفهرست‘- أنه “كانت الأسمار والخرافات مرغوبا فيها مشتهاة في أيام خلفاء بني العباس، وسيما في أيام المقتدر (ت 320هـ/922م)؛ فصنف الوراقون وكذبوا، فكان ممن يفتعل ذلك رجل يعرف بابن دلان.. وآخر يعرف بابن العطار وجماعة. وقد ذكرنا.. من كان يعمل الخرافات والأسمار على ألسنة الحيوان وغيره”.

وفي عملهم الشامل والهائل هذا؛ كان الوراقون يتبارون في سرعة الخط والمهارة فيه والقدرة على انتساخ المؤلفات الكبيرة الحجم، وتبعا لذلك كانت لهم مصطلحاتهم وتقديراتهم لأحجامها وأقسامها والتي ربما اختلفوا في ضبطها.

وقد قدّم لنا ابن عبد الملك المراكشي (ت 703هـ/1303م) -في ‘الذيل والتكملة‘- تقديرات ورّاقي زمانه لأحجام الكتب، فقال إن “المجلد اللطيف” (= الصغير) يكون بحجم ‘ديوان المتنبي‘ (قرابة 5350 بيتا)، و”المجلد المتوسط” يكون قَدر ‘ديوان أبي تمّام‘ (نحو 7300 بيت)، و”المجلد الضخم” يضم 15 ألف بيت فأكثر، ولعل ثمة “المجلد الكبير” الذي سيكون وسطا بين “المتوسط” و”الضخم”.

ويبدو أن تقديرات أحجام الكتب كانت تتفاوت بين المشارقة والمغاربة؛ فالإمام الذهبي مثلا يقدّر “الجزء” بعشرين ورقة، إذْ يقول -في ‘سير أعلام النبلاء‘- إن كتاب ‘تاريخ دمشق‘ لابن عساكر الدمشقي (ت 571هـ/1175م) يقع “في ثمانمئة جزء. قلتُ (= الذهبي): الجزء عشرون ورقة، فيكون ستة عشر ألف ورقة”. أما الإمام ابن خير الإشبيلي الأندلسي (ت 575هـ/1179م) فيعطينا -في ‘فهرسته‘- تحديدا مختلفا للجزء؛ فيقول إن حجم “فهرسته عشرة أجزاء، كل جزء منها ثلاثون ورقة”.

أما حجم “المجلد” فقد حدده لنا ياقوت الحموي مرتين -في ‘معجم الأدباء‘- بأنه 20 كُرّاسة؛ فقال -في ترجمته لأبي العلاء المعري إن له “كتاب «الجلي والحلي»..، مجلد واحد أو عشرون كراسة”. وقال أيضا في ترجمة المهذب ابن الزبير (ت 561هـ/1166م): “وصنف المهذبُ «كتاب الأنساب»، وهو كتاب كبير أكثر من عشرين مجلدا، كلُّ مجلد عشرون كراسا، رأيتُ بعضَه”.

والذهبي يحدد -ضمن ترجمته للمعري في ‘سير أعلام النبلاء‘- حجم الكراسة بأنها “ثلاث ورقات”؛ فيقول إن أحد كتب المعري “عشر كراريس، قلتُ: أظنه يعني بالكراسة: ثلاث ورقات”. والظاهر أن تحديد الذهبي هذا للكراسة لم يكن هو السائد بين الوراقين بدليل أن الزمخشري (ت 538هـ/1143م) يذكر -في ‘أساس البلاغة‘- أن “الكراسة عشر ورقات”، وتحديده هذا هو المستقر عند المحققين لكتب التراث في عصرنا.

تنافس تجاري
ومن صور التباري بين الوراقين في سرعة الإنجاز وضخامته؛ أن أبا الفضل محمد بن طاهر المقدسي الظاهري (ت 507هـ/1113م) كان يقول: “كتبت صحيح البخارِي ومسلم وابن داود سبع ‏مرات بالوراقة، وكتبت سنن ابن ماجه بالوراقة عشر مرات”. وذكر النديم أن الفيلسوف المسيحي السابق الذِّكر أبا زكريا يحيى بن عدي “كان يكتب في اليوم ‏والليلة مئة ورقة”.‏

وفاخر أبو علي ابن شهاب العُكْبُري (ت 428هـ/1038م) جلساءه ومنافسيه من الوراقين بأنه ينسخ “ديوان المتنبي في ثلاث ليال”، مشيرا إلى الدخل الوفير الذي يناله من ذلك بقوله: “كسبتُ في الوراقة خمسة وعشرين ألف درهم (= اليوم 30 ألف دولار أميركي تقريبا)”؛ كما في ‘تاريخ بغداد‘ للخطيب البغدادي.

وينقل الصفدي -في ‘الوافي بالوفيات‘- عن الحافظ أبي بكر محمد بن أحمد (ت 489هـ/1096م) -المعروف بابن الخاضبة الوراق- قولَه إنه “كَتب ‘صحيح مسلم‘ في سنة [466هـ/1074م وحدها] سبعَ مرات”!!

 

وترجم ابن عبد الملك المراكشي -في ‘الذيل والتكملة‘- للمحدّث والقاضي الوراق إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ابن أبي الفوارس القرطبي (ت 357هـ/968م)، فأفاد بأنه “كان مُصْحَفياً (= خطاطا للمصاحف) متقِناً، ويذكر عنه أنه كان يكتب المصحف في جمعتين (= أسبوعين) أو نحوهما”!!

ويخبرنا المراكشي أيضا أن الشاعر يوسف بن يحيى بن الحاج المهري المعروف بابن الجنّان (ت بعد 686هـ/1287م) “كان أسرع الناس كَتْباً (= كتابة) وأدْوَمَه…، فقلّ كتاب مستعمل مشهور إلا نسخه”، وأنه اعتاد في شبابه “نسْخَ عشرين ورقة من الورق الكبير -وسطور كل صفحة منها سبعة وعشرون سطرا- في كلّ يوم”، وقد نسخ “أزيدَ من ‏مئة مجلّد في مدة ليست بالمديدة”.

ويقول المؤرخ ابن فضل الله المُحِبِّي الحموي (ت 1111هـ/1699م) -في ‘خلاصة الأثر‘- إن برهان الدين اللَّقاني المالكي (ت 1041هـ/1631م “ألف التآليف النافعة ورغب الناس في استكتابها وقراءتها”، ثم يضيف أنه جلس لتدريس “منظومته في علم العقائد التي سماها بـ‘جوهرة التوحيد‘..، فكُتِب منها في يوم واحد خمسمئة نسخة”!!

وقد يُفرّق الكتاب -خاصة إن كان ضخما- على عدة وراقين طلبا لسرعة الإنجاز؛ كما حصل حين استأجر ابن أبي شيبة (ت 235هـ/849م) عشرة وراقين لينسخوا له كتابه العظيم “المصنَّف”. ووُزّع كتاب “تاريخ ‏دمشق” (وكان 80 مجلدا) للحافظ ابن عساكر الدمشقي على عشرة وراقين فأكملوا نسخه في سنتين، وهي “مدة معقولة ‏طبقا لمعايير الوراقين”؛ كما يقول المستشرق الألماني فرانز روزنتال (ت 1424هـ/2003م). وسبق ذِكْرُ أنّ ابن الحُطيئة الفاسي كان يتقاسم نسخ الكتاب الواحد مع ‏زوجته وابنته.

إتقان متباين
عُرف عن الوراقين التفاوت في جودة الخط والضبط؛ فكثيرا ما وُصف وراق بأنه “حسن الوِراقة” أو “سيئ الخط”، أو “نبيل الخط ضابط متقن” أو بأنه يكتب “الخط المنسوب”، أي الخط المتناسب الأبعاد هندسيا والذي وضع قواعده شيخ الخطاطين ابن البوّاب البغدادي (ت 413هـ/1023م). فمثلا قال ابن حجر إن ‏إسماعيل الزُّمُكْحُلُ المتقدم ذكره “خطه غاية فِي الحسن مرغوب ‏فيه”.‏

كما تميز بعض الوراقين بمهارات نادرة في التعاطي مع القلم والدواة كإتقان أحدهم الكتابة وهو في وضعية الاستلقاء!! ومن ذلك أن المؤرخ والمحدِّث الأديب كمال الدين ابن الفُوَطي البغدادي (ت 723هـ/1323م) كان ذا “قلم سريع وخط بديع إلى الغاية، قيل إنه يكتب من ذلك الخط الفائق الرائق أَربع كراريس، ويكتب وهو نائم على ظهره”؛ طبقا لابن أيْبك الصفدي (ت 764هـ/1763م) في ‘الوافي بالوفيات‘.

ويذكر الصفدي أيضا -في كتابه ‘أعيان العصر وأعوان النصر‘- أن الورّاق ناصر الدين محمد بن بكتوت (ت 735هـ/1334م) بلغ من مهارته في الوراقة أنه كان ينسخ الكتب وهو يغنّي فلا يخطئ في نسخه ونقله! وفي ذلك يقول عنه إنه “كان قادرا على الكتابة وله فيها رأي لا تفارقه الإصابة…، وحكى لي جماعة عنه أنه كان يضع المحبرة في يده الشمال والمجلَّد من [كتاب تفسير الزمخشري (ت 538هـ/1143م) المسمَّى] ‘الكَشّاف‘ على زنده، ويكتب منه وهو يغني ما شاء الله ولا يغلط، وكان قليل اللحن فيما يكتبه، وأما أنا فرأيته غير مرة يكتب ويغني ولا يغلط”!!

وأثناء عملهم الدقيق؛ كثيرا ما يقع الوراقون –خاصة غير العلماء منهم- في أغلاط فاحشة في النسخ حذفا أو زيادة أو تحريفا أو تصحيفا أو نسبة للكتاب إلى غير مؤلفه، وغيرها من الأخطاء التي وقع فيها النساخ وعانى منها جهابذة المحققين لكتب التراث في زماننا. ولذلك ألف العلماء قديما كتبا في “أخبار المصحِّفين” وفي “شرح ما يقع من التحريف والتصحيف” في نسخ المخطوطات.

وقد عدَّ الجاحظ -في كتابه ‘الحيوان‘- من مزالق الترجمة ضعفَ إلمام المترجم بالدلالات العميقة لمفردات وتراكيب اللغة المنقول عنها وقصور “علمه بإصلاح سقطات الكلام وأسقاط الناسخين للكتب”، كما اشتكى من أن الكِتاب “يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين… ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يُصلح تصحيفا أو كلمة ساقطة فيكون إنشاءُ عشر ورقات من حُرّ اللفظ وشريف المعاني أيسرَ عليه من إتمام ذلك النقص”.

وتكلم العلماء على خطورة هذه الظاهرة وما تؤدي إليه من تشوهات في أهم أدوات المعرفة والإخلال بالأمانة العلمية؛ فقال الإمام تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م) في كتابه ‘مُعيد النعم ومُبيد النقم‘: “ومن النسّاخ من لا يتقي اللَّه تعالى ويكتب عن ‏عجلة ويحذف من أثناء الكتاب شيئا؛ رغبة في إنجازه إذا كان قد استُؤجر على نَسخه جملة. وهذا خائن للَّه تعالى في تضييع العلم”.

ومن “آفات الوراقين” ما كان يشهده مجتمعهم من قضايا الانتحال العلمي الذي كان من صوره اختلاق مصنفات في بعض الفنون الرائجة بين الناس، ثم وضع اسم أحد المشاهير في ذلك الفن عليه طلبا لرواج تلك الكتب ونَفاقها بين القراء استغلالا لسمعة أصحاب الأسماء الكبيرة.

ومن نماذج ذلك ما يرويه ياقوت الحموي -في ‘معجم الأدباء‘- عن القاضي وَكِيع بن حيّان الضَّبّي (ت 306هـ/918م) أنه قال: “سمعتُ حماد بن إسحق (الموصلي الموسيقي الشهير المتوفى نحو 300هـ/912م) يقول: ما ألَّف أبي هذا الكتاب قطُّ -يعني كتاب ‘الأغاني الكبير‘- ولا رآه…!! وإنما وضعه ورّاقٌ -كان لأبي- بعد وفاته، سوى [باب] «الرخصة» التي هي أول الكتاب فإن أبي ألّفها…؛ قال: وأخبرني جَحْظَة (البَرْمَكي الأديب المتوفى 324هـ/936م) أنه يعرف الوراق الذي وضعه، وكان يُسمَّى سندي بن علي (ت بعد 247هـ/861م)، وحانوته في طاق الزبل [ببغداد]، وكان يُوَرِّق لإسحق (الموصلي المتوفى 235هـ/849م)، فاتفق هو وشريك له على وضعه”!!

منتديات ثقافية
ولم تكن دكاكين الوراقين وأسواقهم مجالا لصناعة الكتب ونشرها فقط؛ بل سرعان ما غدت منتديات تلتقي فيها رجالات العلم والثقافة والأدب، فتعقد مجالس الإفادة والإفاضة متصرفةً في ضروب الفكر ومتجولةً في دروب المعرفة، وتخوض في فنون المعارف نقاشا ونقدا وأخذا وردا.

وقد لاحظ الجاحظ -في ‘كتاب البغال‘ من مجموع رسائله- رواج ما يُلقى في أسواق الوراقين من إنتاج مكتوب أيا كان، حتى إنه ما من أحد “ولّد حديثا… ثم صوّره في كتاب وألقاه في الوراقين إلا رواه من لا يحصّل ولا يثبِّت ولا يتوقف”. وحدثنا التوحيدي -في ‘الإمتاع والمؤانسة‘- أن جماعة “إخوان الصفاء” لما أرادوا إذاعة رسائل فلسفتهم وتقديمها للرأي العام “بثّوها في الوراقين”.

وينقل جمال الدين بن يوسف ابن الجوزي (حفيد الإمام ابن الجوزي ت 656هـ/1258م) -في كتابه ‘مناقب بغداد‘- عن إمام الحنابلة في عصره أبي الوفاء ابن عقيل (ت 513هـ/1119م) وصْفَه لمحلته في بغداد وكانت تسمى “باب الطاق”، فيقول إنها وحدها كان فيها للوراقين “سوق كبيرة وهي مجالس العلماء والشعراء”.

ويروي ياقوت الحموي -في ‘معجم الأدباء‘- عن الشاعر المشهور أبي بكر الصنوبري (ت 334هـ/945م) أنه “كان بالرُّها (= مدينة أورفة الواقعة اليوم جنوبي تركيا) وراق يقال له سعيد، وكان في دكانه مجلسُ كل أديب…، وما كنا نفارق دكانه… وغيرنا من شعراء الشام وديار مصر”. وعدّد المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘المواعظ والاعتبار‘- ضمن معالم القاهرة سوقا لأصحاب الكتب من الوراقين، ثم قال عنها: “وما برح هذا السوق مجمعا لأهل العلم يتردّدون إليه”!

فعلى هذه الدكاكين تردد أعلام كبار -سجلت لنا دواوين التاريخ قصصا تحكي زياراتهم لها- من أمثال: الأصمعي (ت 216هـ/831م) وأبي نُوَاس (ت 198هـ/814م)، وأبي العيناء (ت 283هـ/896م) وأبي هفان والجاحظ، وأبي الطيب المتنبي (ت 354هـ/965م) وأبي الفرَج الأصفهاني (ت 356هـ/965م) وأبي سعيد السيرافي والنديم صاحب ‘الفهرست‘، والتوحيدي وابن سينا (ت 428هـ/1037م) وأبي العلاء المعري،‏ وياقوت الموصلي (ت 618هـ/1221م) وياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) وياقوت المستعصمي (ت 698هـ/1299م)، ومن الفقهاء والمحدّثين الزَّرْكَشي (ت 794هـ/1392م) وابن عرفة الوَرْغَمِي التونسي (ت 803هـ/1400م) والحافظ ابن حجر العسقلاني.

ولا شك أن قائمة أعلام الوراقين المذكورين في كتب التاريخ والتراجم تستعصي على الحصر، وما أهمل التاريخ ذكره منهم أكبر وأكثر. وبعض هؤلاء كان وراقا في مرحلة ما من عمره كما نعرفه عن السيرافي والنديم والتوحيدي والياقوتيْن الحموي والموصلي وسَمِيِّهما المستعصمي.

ضبط تشريعي
كان الوراقون يتعاطون مع شتى أنواع الكتب والدواوين والوثائق، ولم يكن أغلبهم يكترث لمضمون ما سينسخه أو لشخص من يورّق له؛ فها هو النديم يسجل لنا عناوين نحو 110 كتب ألِّفت أو تُرجمت متضمنة روايات للأسمار وقصصا للعشاق والمتحابين من الإنس والجن!! ولذلك كثيرا ما طالب الفقهاءُ السلطاتِ بمنع الوراقين من تداول ونشر كتب معينة بين الناس.

فقد أورد الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه ضمن أحداث سنة 279هـ/892م أيام الخليفة العباسي المعتمد- أنه “كان من أمر السلطان.. [أن] حُلِّف الوراقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة”. وذكر الخطيب البغدادي أنه لما حكم القضاءُ بإعدام الصوفي الفيلسوف أبي عبد الله الحلّاج سنة 309هـ/921م “أحضِر جماعة من الوراقين وأحلِفوا على ألا يبيعوا شيئا من كتب الحلاج ولا يشتروها‏”.

وقد لخّص تاج الدين السبكي -في ‘مفيد النعم‘- واجباتِ الوراق القانونية في التزامه بـ”ألَّا يكتب شيئا من الكتب المضلّة ككتب أهل البدع والأهواء، وكذلك لا يكتب الكتب ‏التي لا ينفع اللَّه تعالى بها كسيرة عنتر، وغيرها من الموضوعات المختلفة التي تضيع ‏الزمان وليس للدين بها حاجة، وكذلك كتب أهل المجون… ‏فينبغي للناسخ ألَّا يبيع دينه ‏بدنياه”.

ولم تقتصر دكاكين الوراقة على نسخ الكتب والوثائق فقط؛ بل اتسع نطاقها ليشمل كافة الخدمات الكُتبية، بما في ذلك صناعة الورق التي بلغ عدد معاملها في فاس وحدها 104 معامل أيام المرابطين، وتجاوزت أربعمئة معمل في عهد خلفائهم الموحدين. وكذلك فن الخط وفن تجليد الكتب (يسمى “التسفير” في الأندلس والمغرب) وفن زخرفتها (التذهيب أو التزيين)، وهي فنون بلغت مستوى من الإتقان صارت به من أرقى الفنون الإنسانية الجميلة.

وقد احتفظ لنا النديم بأسماء سبعة من مشاهير “المجلِّدين” القدماء، فكان من أبرزهم مكانة “ابن أبي الحرِيش (ت بعد 218هـ/833م) [الذي] كان يجلّد في خزانة الحكمة للمأمون” بغداد‎، ثم توسعت تلك المهن المصاحبة للوراقة على نحو متعاظم حتى وجدنا الإمام السخاوي (ت 902هـ/1497م) يترجم -في ‘الضوء اللامع لأهل القرن التاسع‘- لأكثر من ثلاثين عَلَما أتقنوها في القرن التاسع الهجري/الـ15م وحده، بل إن بعضهم جمع بين كل تلك المهارات فـ”تميز في الكتابة والتجليد والتذهيب”!!

وممن امتهن نسخ الكتب وتجليدها وتزيينها -في هذا القرن وبمنطقة الغرب الإسلامي- إمامُ المالكية في قُطره قاضي القضاة أبو بكر ابن عاصم الغرناطي (ت 829هـ/1426م) فقد عُرف بـ”براعة الخط وإحكام الرسم وإتقان الصنائع العملية [في الوراقة] كالتسفير والتذهيب وغيرهما”؛ وفقا للعلامة أحمد بابا التنبكتي (ت 1036هـ/1626م) في ‘نيل الابتهاج بتطريز الديباج‘.

ومع ازدهار الوراقة؛ تطورت كذلك صناعة الأقلام والمداد وكيمياء تركيب الأحبار من مختلف الألوان، وتفننوا في ذلك حتى تمكنوا من صناعة حبر يُقرأ مكتوبه ليلا ولا يُقرأ نهارا! بل إن الصفدي يخبرنا أنه “كتَب بعضُ المغاربة إلى الملك الكامل (الأيوبي ت 635هـ/1237م) رقعة في ورقة بيضاء، إن قُرِئت في ضوء السراج كانت فضية، وإن قرئت في الشمس كانت ذهبية، وإن قرئت في الظل كانت حبرا أسود”!!

ضبط مؤسسي
وعلى المستوى التنظيمي؛ كان لا بد لمهنة الوراقة -ككل الحرف والصناعات- من أن توّثّق أعرافها الناظمة وتدون تجاربها المتراكمة، وصار لصنعتها نقابة مهنية تُعرف بـ”مشيخة الوراقين” أو “مشيخة الخطاطين”؛ ومن أقدم من وقفنا على ذكر تقلده زمام مسؤوليات نقابة الوراقين هذه في مصر زين الدين عبد الرحمن بن يوسف القاهري المعروف بـ”ابن الصائغ” (ت 845هـ/1441) الذي وصفه المؤرخ خير الدين الزِّرِكْلي (ت 1396هـ/1976م) -في كتابه ‘الأعلام‘- بأنه “شيخ الخطاطين في عصره…، نسخ كثيرا من المصاحف والكتب”.

وقد صنَّف ابن الصائغ كتابا في أصول مهنته سمّاه: «تحفة أولي الألباب في صناعة الخط والكتاب»، ولعله أول كتاب منفرد ومحترف في فنه يصلنا مع رسالة معاصره محمد بن أحمد الزفتاوي (ت 806هـ/1404م) المعنونة بـ«مناهج الإصابة في معرفة الخطوط وآلات الكتابة»، وقد طُبع العملان محقَّقيْن على يد الأديب العراقي هلال ناجي العلوي (ت 1432هـ/2011م)، ضمن مشروعه الرائد “موسوعة تراث الخط العربي” التي تضم 14 مصنَّفاً.

وقد ترجم السخاوي -في ‘الضوء اللامع‘- لعشرات الوراقين الذين تتلمذوا على ابن الصائغ القاهري وترسخت بهم وبتلامذتهم تقاليد مهنة الوراقة في العصور اللاحقة. وممن تولَّى “مشيخة الوراقين” أيضا عبد الرحمن بن أحمد الحميدي الذي كان “شيخ الوراقين بمصر” في حقبة متأخرة من القرن العاشر الهجري/الـ16م.

ويحدثنا المؤرخ عبد الرحمن الجَبَرْتي (ت 1240هـ/1824م) -في ‘عجائب الآثار‘- عن أوضاع هذه المشيخة في عصره، وكيف آلت إلى الاندثار ممهدةً الطريق لقدوم آلة المطبعة إلى مصر بنحو نصف قرن؛ فيقول إن ممن تولى نقابتها الأمير حسن أفندي بن عبد الله الملقب بالرشيدي الرومي (ت 1205هـ/1790م).

ووصف الجبرتيُّ الوراقَ الرشيدَ الروميَّ هذا بأنه لم يزل معتكفا على تعلُّم الخط والنسخ “معتنيا بالتحرير والتجويد إلى أن فاق أهل عصره في الجودة في الفن…، ولما تُوفي شيخ المكتِّبين (= الخطاطين) المرحوم إسماعيل الوهبي (جد الشاعر إسماعيل الخشّاب المتوفى 1230هـ/1815م) جُعِل المترجَم (= الأمير الرشيدي) شيخا باتفاق منهم…، ولم يزل شيخا ومتكلما على جماعة الخطاطين والكُتّاب وعميدَهم… إلى أن طافت به المنية…، وبموته انقرض نظام هذا الفن”!!

بداية النهاية
وقد أمدتنا أقلام خبراء الوراقة الأقدمين بطائفة من الكتب المرشدة في تقاليد صناعتها تصحيحا بالمراجعة والمقابلة، وتحصينا بالتجليد والترميم، وتزيينا بالتذهيب والزخرفة. ولكن كثيرا منها لم يصلنا سوى عنوانه، ومنها: رسالتان في مدح الوراقين وذمهم للجاحظ، و”‎رسالة الوراقة” لأبي زيد البلخي (ت 322هـ/934م)،‎ وكتاب “تنويق النطاقة في علم الوراقة” لعبد الرحمن بن مسك السخاوي (ت 1025هـ/1616م).

وأما الكتب التي وصلتنا نصوصها فقليلة، وأبرزها: “كتاب التيسير في صناعة التسفير” لأبي عمرو بكر بن إبراهيم الإشبيلي (ت 629هـ/1232م)، ومنظومة “تدبير السفير في صناعة التسفير” لابن أبي حميدة (ت بعد 737هـ/1336م).

كما سعى الوراقون إلى أن يُدرِجوا حرفتهم في “ثقافة الأسانيد” المهنية التي سادت في الحياة العلمية الإسلامية مع ظهور النقابات الحِرفية، ولذلك نجد أنه لما تولى الأمير الرشيدي -السالف الذكر- مشيخة الخطاطين بمصر “ألَّفَ من أجله… السيد محمد مرتضَى (الزَّبيدي المتوفى 1205هـ/1790م) كتاب «حكمة الإشراق إلى كُتّاب الآفاق» [فـ]ـجمع فيه ما يتعلق بفنِّهم مع ذكر أسانيدهم، وهو غريب في بابه”؛ وفقا للجبرتي.

وبعد هذه الرحلة الزاخرة الزاهرة؛ كان لا بد لقافلة الوراقين أن تضع عصا التسيار، وما كان لها أن تجد توقيتا أنسب لبدء العد التنازلي لتوقفها الإجباري من “لحظة غوتنبرغ”، تمهيدا لانقطاع مسيرتها النهائي بعد مرور قرنين ونصف على تلك اللحظة؛ فبعد سبعة عقود من ظهور اختراع “المطبعة”؛ طرقت الطباعةُ بابَ لغة الضاد فدخلت عالمها بكتاب «صلاة السواعي» المسيحي الذي أصبح أول كتاب يطبع باللغة العربية سنة 919هـ/1513م.

وبتمام الألفية الهجرية في سنة 1000هـ/1591م؛ ظهرت باكورة كتب التراث العربي الإسلامي المطبوع أولا بأوروبا: «الكافية» لابن الحاجب المالكي (ت 646هـ/1248م)، و«الآجرومية» لابن آجُرُّوم الصِّنْهاجي (ت 723هـ/1323م)، و«نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» للجغرافي الإدريسي (ت 560هـ/1165م).

ثم كان أول كتاب من هذا التراث العربي يُنشر مطبوعا في العالم الإسلامي ترجمة تركية لمعجم «الصِّحاح» لأبي نصر الجوهري (ت 393هـ/1004م)، وقد طُبعت سنة 1142هـ/1729م في إسطنبول بأول مطبعة رسمية تدخل بلاد الإسلام، وهي مطبعة العالِم والدبلوماسي العثماني إبراهيم متفرقة المَجَري (ت 1157هـ/1744م)!!

 

مشاركة