السريان في القدس.. أقدم الطوائف المسيحية وجذورهم الضاربة في التاريخ

السريان في القدس.. أقدم الطوائف المسيحية وجذورهم الضاربة في التاريخ

من الآراميين إلى أبناء اللغة السريانية… حكاية شعبٍ جعل من القدس موطناً للروح والتراث

يُعد السريان من أقدم الطوائف المسيحية في العالم، وتشير المصادر التاريخية إلى أنهم أول شعب وثني اعتنق المسيحية في بداياتها الأولى، قبل أن تنتشر ديانتهم في بلاد الشام والعراق والهند، وصولاً إلى القدس التي شكّلت مركزًا دينيًا وتاريخيًا لهم منذ القرون الأولى للميلاد.

 أصول السريان

تعود أصول السريان إلى الآراميين، أحفاد آرام بن سام بن نوح، الذين عُدّوا من أقدم الشعوب السامية في المشرق.
أطلق عليهم المؤرخون اليونانيون اسم “السريان” بعد اعتناقهم المسيحية في القرنين الأول والثاني للميلاد، لتمييزهم عن الآراميين الوثنيين.

انطلق الآراميون من الصحراء السورية نحو أعالي ما بين النهرين، واستقروا في مناطق مثل حرّان، وأسسوا ممالك مزدهرة مثل مملكة الرها في تركيا، وتدمر في سوريا، والأنباط في الأردن.
ورغم سقوط ممالكهم عسكرياً أمام الآشوريين، ظلّ تأثيرهم الثقافي والحضاري واسعاً، وأسهموا في صياغة هوية المشرق القديم.

 اللغة السريانية… من الآرامية إلى لغة المسيحية

اللغة السريانية هي إحدى اللغات السامية المشتقة من الآرامية، وظهرت في الألف الأولى قبل الميلاد.
منذ القرن السادس قبل الميلاد أصبحت لغة التخاطب الرئيسية في الهلال الخصيب، واستمرت بعد الميلاد لغةً علمية ودينية حتى القرون الوسطى.

في القرن الرابع الميلادي اكتسبت اسمها الحالي مع انتشار المسيحية، وأصبحت اللغة الأم للطوائف الآشورية والسريانية والكلدانية.
تُكتب بالأبجدية السريانية المؤلفة من 22 حرفًا، وتُقرأ من اليمين إلى اليسار، وقد تسرب كثير من مفرداتها إلى العربية المحكية، خاصة في اللهجات الفلسطينية والعراقية.

 الوجود السرياني في القدس

يرجع وجود السريان في القدس إلى القرن الأول الميلادي، إذ اعتُبروا جزءاً أصيلاً من النسيج المسيحي في المدينة المقدسة.
تقول الروايات إن العديد من السريان استقروا في القدس بعد مجيئهم من طور عبدين جنوب شرقي تركيا في بدايات القرن العشرين، عقب الحرب العالمية الأولى.

وتُعد السريانية اللغة التي تحدث بها السيد المسيح عليه السلام، وهو ما منحها قداسة خاصة لدى السريان الذين حافظوا على طقوسهم الدينية بها.

منذ عام 1471، وُجدت في القدس أسقفية سريانية أرثوذكسية، كما أن السريان يُعدّون ثالث أكبر الطوائف المسيحية في فلسطين بعد الروم واللاتين، بنسبة تقارب 10% من مجمل المسيحيين في الديار المقدسة.
ويُقدَّر عدد السريان في فلسطين اليوم بأكثر من 4 آلاف نسمة، بينهم نحو 300 عائلة في القدس و500 في بيت لحم.

 الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في القدس

تُعد الكنيسة السريانية الأرثوذكسية من الكنائس الأنطاكية الشرقية المستقلة إداريًا، لكنها تشترك مع بقية الكنائس الأرثوذكسية في وحدة الإيمان والعقيدة.

يعود وجودها في القدس إلى القرن الخامس الميلادي، إذ أُعيد بناؤها عام 73 للميلاد بعد تدمير المدينة على يد الإمبراطور الروماني تيتوس، ثم رُمّمت في عصور لاحقة، خاصة في زمن الفرنجة.

وبحسب التقاليد السريانية، فإن موقع الكنيسة كان بيت القديس مرقس ومكان العشاء الأخير للمسيح وتلاميذه.
وخلال ترميمات عام 1940، عُثر على نقش بالخط الآرامي يشير إلى أن المكان تحوّل إلى كنيسة على اسم السيدة مريم العذراء بعد صعود المسيح إلى السماء.

ورغم أن الكنيسة كانت تمتلك 10 أديرة داخل القدس، لم يبق منها سوى دير مار مرقس داخل البلدة القديمة، والمحصور اليوم بين الأحياء اليهودية والأرمنية.

 دير مار مرقس السرياني

يقع دير مار مرقس في حارة الشرف داخل البلدة القديمة للقدس، بين حارتي الأرمن واليهود، على بعد 20 مترًا من كنيسة القديس توما.

ويُعدّ الدير من أقدم المعالم المسيحية في القدس، ويُعتقد أن مكانه شهد نزول روح القدس على التلاميذ بعد صعود المسيح، في ما يُعرف بعيد العنصرة.

الهيكل الحالي للدير يعود للفترة الصليبية، وقد اشتراه بطريرك السريان الأرثوذكس من الكنيسة القبطية عام 1472 ليكون مركزاً للطائفة السريانية في المدينة.
ويضم الدير اليوم دار الأسقفية السريانية وكنيسة العذراء المبنية على موقع يُعتقد أنه كان بيت السيدة مريم العذراء.

 المؤسسات السريانية في القدس

إلى جانب دور العبادة، أسس السريان مؤسسات ثقافية واجتماعية عديدة، أبرزها:

  • جمعية مار مرقس (تأسست عام 1926).

  • النادي الأرثوذكسي السرياني (تأسس في عشرينيات القرن العشرين).

  • مجلة الحكمة، التي تُعدّ من أقدم الدوريات السريانية في الشرق، إذ صدر عددها الأول عام 1914 في دير الزعفران بتركيا، ثم أعيد إصدارها في القدس عام 1926، قبل أن يُعيد الصحفي الفلسطيني جاك خزمو إحياءها مجددًا عام 1990.

 إرثٌ روحي وثقافي باقٍ

يحافظ السريان في القدس اليوم على تراثهم الديني واللغوي العريق، من خلال طقوسهم الكنسية باللغة السريانية، ومؤسساتهم التعليمية والثقافية التي تُسهم في إحياء الهوية السريانية ونقلها إلى الأجيال الجديدة.

وبالرغم من التحديات التي تواجههم، يظلّ السريان شاهدين على تاريخ المسيحية الأول في القدس، وحلقة وصلٍ حيّة بين الآرامية القديمة واللغات السامية الحديثة، وبين مسيحية المشرق وذاكرة الأرض المقدسة.

مشاركة