المنح التعليمية في الحضارة الإسلامية.. موسيقي يرعى الفقهاء ومسيحي يكفل طلاب الطب و200 مليون دولار لميزانية المستنصرية

المنح التعليمية في الحضارة الإسلامية.. موسيقي يرعى الفقهاء ومسيحي يكفل طلاب الطب و200 مليون دولار لميزانية المستنصرية

في جمادى الآخرة سـنة 630هـ/1233م؛ اكتمل في بغداد –قُبيل سقوطها في أيدي المغول سنة 656هـ/1258م- بناءُ الجامعة المستنصرية، فخُصصت لها أوقاف ضخمة لتغطية الأعباء التعليمية من رواتب مدرسين وكفالة طلاب وغيرها. وقد قدّر الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في كتابه ‘تاريخ الإسلام‘- تلك المخصصات بزهاء 900 ألف دينار ذهبي (أي نحو 200 مليون دولار أميركي تقريبا اليوم)؛ ثم قال: “لا أعلم وقْفًا في الدنيا يقارب وقفَها أصلا سوى أوقاف جامع دمشق، وقد يكون وقفُها أوسع”!!

لقد راهنت الحضارة الإسلامية على الحركة التعليمية؛ فلم يتوقف غالبا بناء المدارس ولا الجامعات حتى في أشد أوقات السلطة السياسية ضعفا، وليس أدل على ذلك من هذا التزامن بين بناء الجامعة المستنصرية ذات المكانة العظيمة واستعداد القائد المغولي هولاكو (ت 663هـ/1265م) لاقتحام بغداد. ويكشف لنا ذلك عن سبب مهم من أسباب صمود المجتمع الإسلامي أمام تلك الهجمة المغولية العاتية، وسرّ قدرة المجتمع على تحويل الهزيمة السياسية إلى نصر ثقافي وحضاري، وتمكُّنه من تغيير مسار الغزاة -بعد مدة قصيرة- نحو اعتناق الإسلام فآمن به قطاع واسع من تلك القبائل الهمجية.

إن استمرار بناء الصروح العلمية لم يكن فقط قوة وعي وتنوير بل كان كذلك قوة صمود وثبات في الأزمات والمحن، ومن هنا كان إدراك المسلمين أن الحركة العلمية لا تقوى وتزدهر إلا بالمال الذي يكفل أبناءها بعزة وكرامة، فالطالب النبيه الفقير قد يواصل دراسته بعصامية ولكن عطاءها سيكون أسرع وأوفر معرفيا لو كُفي همَّ معاشه بالمنح التعليمية، وكذلك الأستاذ إذا منح فرصة التفرغ لتعليم الناشئة وتصنيف المدونات العلمية، وهو ما قاد إلى شيوع ظاهرة هذه المنح في المجتمعات الإسلامية عبر الأوقاف وتجسيد قيم البذل والإنفاق التي حضت عليها تعاليم الإسلام.

وفي الوقت نفسه كانت المنح التعليمية إحدى صور العدالة الاجتماعية؛ فقد كان التعليم وسيلة ناجعة لأبناء الطبقات الموصوفة عادة بـ”الهامشية” لكي ترتقي بأمان مدارج السلّم الاجتماعي بجهودها الذاتية، ولم يكن لهؤلاء أن يُمكنوا من هذا الصعود إلا بدعم مالي سخي لا يفرق بين المنتسبين إلى طلاب العلم، وهو دعم كانت تمده روافد متعددة خُصصت لها أسهم من الزكاة، وحُبِّست لأجلها موارد الأوقاف والكفالات من الأغنياء ورجال السلطة السياسية، فكانت تلك الأموال تذهب إلى الطلاب النابهين من تلك الفئات، وبالتالي يمكن النظر إلى المنح التعليمية باعتبارها وجها من وجوه إذابة الفوارق الطبقية، وطريقة مثلى تساعد من يبحثون عن تحسين ظروفهم داخل مجتمع كان يعتبر العلم والعلماء هم صفوته وقادته.

وللمنح التعليمية صور كثيرة ومتنوعة؛ منها جوائز التفوق العلمي التي ينالها الطالب المتفوق مكافأةً له على اجتهاده وحصاده، ومنها ما يحصل عليه الأستاذ المبدع في التصنيف والابتكار من تكريم مادي من قبل الدولة والسلطة السياسية، ومن صور مواردها الشهيرة الوقف المخصص لدعم طلاب العلم وتوفير أدوات الدراسة من كتب وقرطاسيات ومأوى وإعاشة.

وفي عصرنا هذا؛ يتطلع الطلاب في جميع أرجاء العالم -بدايةَ كل سنة دراسية- للحصول على المنح العلميّة التي تريحهم من رسوم الدراسة، وتعينهم على مواصلة مسيرتهم التعليمية. ويعرّف معجم أوكسفورد المنحة العلمية بـأنها “مبلغ مالي يعين الطالب على مواصلة تعليمه يحصل عليه عن طريق استحقاق أو إنجاز”. وتشهد دول العالم الأول تنافسا محموما من أبنائها للحصول على المنح التعليمية لا سيما طلاب المراحل الأكاديمية، وترصد لتلك المنح مبالغ طائلة من جهات رسمية ومؤسسات أهلية؛ فمثلا يبلغ إجمالي ما تقدمه الكليات والجامعات ووزارة التعليم بالولايات المتحدة من هذه المنح العلمية الأكاديمية 46 مليار دولار سنويا.

والحقيقة أن المسلمين سبقوا عصرنا إلى فكرة المنح التعليمية لدعم التفرغ للمعرفة والتدريس والتلمذة باعتبار ذلك صناعة تُرصد لها الأموال الطائلة في كل أمصار وأعصار الحضارة الإسلامية، وهو ما تتطرق إلى بيانه هذه المقالة التي تتمثل غايتها في عرض جوانب من عناية الحضارة الإسلامية بالعلم والإنفاق على نشره بين عامة الناس، متخذةً من المنح العلمية –بمفهومها الحضاري الإسلامي الواسع- دليلا على هذه العناية والرعاية، عبر استعراض أنواع ومصادر الدعم والإسناد المادي الذي كان يُرصد للطلاب والمعلمين، من أجل مساعدتهم على تسخير الأوقات للانكباب على المحابر والكتب والتفرغ لتحصيل العلوم والمعارف وتوصيلها إلى مبتغيها.

سابقة نبوية
بُعث النبي ﷺ في أمّةٍ أميّة وكان عدد من يحسن الكتابة -ساعةَ مبعثه- في قريش بضعة عشر رجلًا. واختلف المؤرخون في أول من تعلمها منهم؛ فقيل إنه حرب بن أمية (ت 15ق.هـ/607م) وعنه أخذها ابنه أبو سفيان (ت 60هـ/680م)، وعلى الأخير تعلّمها عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) وجماعة من قريش. ولم يتهيأ لنا الوقوف على شيء محدَّد في تكاليف التعليم في ذلك العهد، سوى ما نعرفه من حديث مفاداة الأسرى بعد غزوة بدر سنة 2هـ/624م، وعليه فإننا نقدر أن تكلفة التعليم الأوّليّ للطالب الواحد كانت تدور حول 400 درهم فضي (= اليوم 800 دولار أميركي تقريبا).
وإنما قدرنا ذلك لما ورد من أن أقل مبلغ لفداء الأسير المشرك هو أربعمئة درهم، ويبدو أنه في مقابل عدم دفع ذلك المبلغ اكتفى النبي ﷺ من بعض الأسرى بتعليم أحدهم مجموعة من صبيان الأنصار؛ فقد ذكر الإمام ابن القيم (ت 751هـ/1350م) -في ‘زاد المَعاد في هدي خير العباد‘- أنه “ثبت عنه ﷺ في الأسرى أنه… فادى بأسرى بدر بالمال بأربعة آلاف إلى أربعمئة [درهم]، وفادى بعضهم على تعليم جماعة من المسلمين الكتابة”.

وحين طلعت شمس الإسلام؛ جاء القرآن الكريم بتفضيل أهل العلم على من سواهم في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾؛ (سورة الزُّمَر/الآية: 9). ووردت أحاديث نبوية كثيرة في فضل طلب العلم والتعليم، فكان النبي ﷺ يحض أصحابه –خاصة من من كانوا يسمونهم “أهل الصُّفة” الفقراء- على التعلم، ويفرّغهم لاكتسابه حيث كان يتولى تعليمهم بنفسه. ففي حديث أنس بن مالك (ت 93هـ/713م) أن النبي ﷺ كان “يُقْرئ أصحابَ الصُّفَّة (= بناء في مؤخَّرة المسجد)” القرآن العظيم؛ رواه الطَّبَراني (ت 360هـ/971م) في ‘المعجم الأوسط‘.

قال أبو نعيم الأصفهاني (ت 430هـ/1040م) -في ‘حلية الأولياء‘- معلقا على هذا الحديث: “كان شُغلهم تفهُّم الكتاب وتعلُّمه”.وكان النبي ﷺ يجعلهم مصرفًا للزكاة والصدقات والهدايا باعتبارهم “أضياف الإسلام”، وخصص لهم حصصا غذائية يومية مقدارها “مدٌّ من تمر بين رجلين” (المدّ النبوي يساوي نحو نصف كيلوغرام)؛ كما في حديث الطبراني عن الصحابي طلحة بن عمرو النضري (ت بعد 70هـ/790م). وبذلك يكون النبي ﷺ أقام أول سكن طلّابي كان يستضيف طلّاب العلم والتفقه في الدين الوافدين على المدينة، وصار ساكنوه يعرفون بـ”أهل الصُّفَّة”!

كان عدد أهل الصُّفَّة يقدَّر بسبعين رجلا، وقد ذكر منهم أبو نعيم 52 اسمًا؛ بينهم عدد من ذوي المكانة العلميّة الكبيرة مثل أبي هريرة (ت 59هـ/680م) وسلمان الفارسي (ت 33هـ/655م) وأبي سعيد الخُدْري (ت 74هـ/694م) وأبي ذَرٍّ الغِفَاري (ت 32هـ/654م)، وكل هؤلاء من كبار علماء الصحابة وفقهائهم الذين كان الناس يفزعون إليهم في التعلّم والفتيا أيام الصحابة ومَن بعدهم.

وقد وردت عن النبي ﷺ أحاديث كثيرة في الإحسان إلى طلاب العلم والعناية بهم، وتشرّب منه ذلك الاهتمامَ بهم صحابتُه الكرام؛ ففي ‘سُنن الترمذي‘ عن التابعي أبي هارون العبدي (ت 134هـ/752م) قال كنا نأتي أبا سعيد [الخدري] فيقول: مرحبا بوصية رسول الله ﷺ، إن رسول الله ﷺ قال: إن الناس لكم تَبَعٌ، وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرضين يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوْصُوا بهم خيرا”.

رعاية مبكرة
ولما انقضى العصر النبوي؛ سرعان ما بدأ تقليد المنح العلمية يشيع في الثقافة الإسلامية، فعرف المجتمع الإسلامي تقديم المنح الشخصيّة بأشكال متعددة، كان من أوائلها رعاية موهبة خاصة يلحظ وجودها المانحُ في الممنوح له كتعدّد اللغات مثلا.

فقد جاء عند الإمام الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- ضمن ترجمته لأبي جمرة نصر بن عمران الضُّبَعي (ت 127هـ/746م) قولُ الأخير: “كنت أقعد مع ابن عباس (ت 69هـ/689م) وكان يجلسني معه على سريره، فقال لي: أقم عندي حتى أجعل لك سهما من مالي، فأقمت معه شهرين”. وكان أبو جمرة هذا يتولى الترجمة الفورية لمجالس ابن عباس العلمية لمن يتكلم اللغة الفارسية من حاضريها. وفعْلُ ابن عباس هذا قال الحافظ ابن حَجَر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في ‘فتح الباري بشرح صحيح البخاري’- إنه “استنبط منه [بعضُ العلماء]… جوازَ أخذ الأجرة على التعليم”.

ولا أدل على رسوخ تقاليد المنح العلمية في الثقافة الإسلامية من كونها كانت أساسا متينا لقيام المذاهب الفقهية التي يتعبّد المسلمون ربّهم بأقوال أئمتها وفقهائها؛ فلو لم تكفِ المنحُ العلمية مؤسسي المذاهب الفقهية في الإسلام –وهم بعدُ ما زالوا شبابا- همَّ الرزق لاشتغلوا بتحصيل كسب المعاش عن الإمامة في العلم، ولَمَا قامت ربما مذاهبهم على النحو الذي عرفناه من الثراء العلمي والرسوخ التاريخي.

فهذا الإمام أبو حنيفة (ت 150هـ/768م) -وهو مؤسس المذهب الحنفي وكان تاجرا كبيرا- يلمس من تلميذه أبي يوسف البَجَلي (ت 182هـ/798م) نبوغًا واستعدادًا ذهنيا عظيما لحمل علمه، فيخصه بمنحة علميّة ويفرّغه للطلب والتحصيل المعرفي. فحين أجبرت ظروفُ الفقرِ وحاجةُ الأهلِ الشابَّ أبا يوسف على التوقف عن طلب الحديث والفقه على شيخه؛ تفقد الإمام أبو حنيفة حاله حتى علم سبب انقطاعه عن مجلسه، فأهداه “صُرّة.. فيها مئة درهم”، ثم خاطبه قائلا: “الْزِمِ الحلقةَ، وإذا نفدت هذه [الصُّرَّة] فأعلمني، ثم بعد أيام أعطاني مئة”؛ طبقا للذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- الذي يفيدنا بتواصل هذه الرعاية الكريمة قائلا: “فكان أبو حنيفة يتعاهد أبا يوسف بالدراهم، مئة بعد مئة”!! وبسبب هذه الرعاية من الشيخ الإمام لتلميذه الذي “كان أبوه فقيرا له حانوت ضعيف”؛ أصبح أبو يوسف بعد ذلك من الأركان التي قامت عليها مدرسة شيخه الفقهية فأخذ الناس عنه مذهبه، كما أضحى أول قاضي قضاة في تاريخ الإسلام.

وهذا الإمام الشافعي (ت 204هـ/2019م) ينشأ فقيرا فلا يجد ما يؤدي به رسوم التعليم الأوّلي التي يطلبها معلم الصبيان، فيضطر للعمل مساعدا لأستاذه ليحصل على “منحة” في شكل إعفائه من الرسوم. قال أبو بكر الحُمَيدي (ت 219هـ/834م) وكان تلميذا للشافعي وشيخا للإمام البخاري: سمعت الشافعي يقول: “كنت يتيما في حِجْر أمي ولم يكن لها ما تعطيني للمعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب وأخفف عنه”؛ حسبما نقله الإمام أبوبكر البَيْهقي (ت 458هـ/1067م) في ‘أحكام القرآن‘.

وفي شبابه؛ التحق الشافعي بحلقة الإمام محمد بن الحسن الشَّيباني (ت 189هـ/805م) في بغداد، ورأى محمدٌ نبوغَ الشافعي فرغب في أن يلازمه، فما زال يمنحه من ماله ويزيد له في العطاء حتى أخذ عنه علمًا كثيرًا، عبّر هو عن حجمه بقوله: “ولقد كتبتُ عنه حمل بعير ذَكَرٍ، وإنما قلتُ «ذكر» لأنه بلغني أنه يحمل أكثر مما تحمل الأنثى”؛ وفقا لما أورده عنه أبو عبد الله الصَّيْمَري الحنفي (ت 436هـ/1045م) في كتابه ‘أخبار أبي حنيفة وأصحابه‘. ونقل الذهبي عن أبي عُبيد الهَرَوي (ت 224هـ/835م) قوله: “رأيت الشافعي عند محمد بن الحسن وقد دفع إليه خمسين دينارا، وقد كان قبل ذلك دفع إليه خمسين درهما، وقال: إن اشتهيت العلم فالْزم”.

تأسيس فقهي
تعاقبت القرون الخيّرة على هذه العناية بالإنفاق على طلاب العلم وكفالتهم، ورسّخت ذلك في ضمير الأمة الجمعي فتاوى الفقهاء التي بلغت به حدّ فروض الكفاية على جميع الأمة، وقضت بأنه حق واجب يؤخذ ولو بقوة السلطة. فقد قرر فقهاء الحنفية –على لسان أبي منصور الماتُرِيدي (ت 333هـ/848م)- أنه “لزم على المسلمين كفاية طالب العلم إذا خرج للطلب؛ حتى لو امتنعوا عن كفايته يُجبَرون كما يُجبرون في [دفع] دَيْن الزكاة إذا امتنعوا عن أدائها”؛ طبقا للإمام ابن عابدين الدمشقي الحنفي (ت 1252هـ/1838م) في ‘العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية‘.

وصرح الحنفية أيضا بجواز “نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر لطالب العلم” كما في ‘الموسوعة الفقهية الكويتية‘، مع أن الأصل منع نقل الزكاة عن بلد مال نصابها ما دام فيه محتاج إليها. وقال النووي (ت 676هـ/1277م) -في ‘المجموع شرح المهذَّب‘- إن طالب العلم القادر على العمل إذا اشتغل عنه “بتحصيل بعض العلوم الشرعية… حلّت له الزكاة، لأن تحصيل العلم فرض كفاية”.

وجعل العلماءُ الصرفَ على المواد التي يحتاج إليها طالب العلم -كالكتب والمقررات الدراسية ومستلزمات ذلك من حبر وورق- من مصارف الزكاة “لأن ذلك من جملة ما يحتاجه طالب العلم فهو كنفقته”؛ حسبما في ‘كشاف القناع عن الإقناع‘ لمنصور بن يونس البُهُوتي الحنبلي (ت 1051هـ/1641م).

هذا فضلا عن أن الفقهاء جعلوا رعاية طلاب العلم والعلماء واجبا على الدولة، وأثبتوا لهم حقا معلوما في بنود ميزانيتها؛ فقد ذكر الإمام ابن عابدين الحنفي -في كتابه ‘رَدُّ المُحتار على الدُّر المُختار‘- أن من مصارف بيت المال كفاية العلماء، وطلاب العلم المتفرغين للعلم الشرعي. وذهب بعض العلماء إلى جواز أخذ طالب العلم الزكاة ولو كان غنيا إذا فرغ نفسه لإفادة العلم واستفادته؛ كما جاء في ‘الموسوعة الفقهية الكويتية‘.

وبفضل هذا التأسيس الفقهي؛ اتخذت المنح العلمية أشكالًا مختلفة، وتعددت أغراضها وأهدافها، وتنوعت الفئات التي استفادت منها من العلماء وأرباب شتى الفنون والتخصصات؛ فهذا الأمير الأموي خالد بن يزيد (ت 84هـ/704م) يهتم بإحضار العلماء المتخصصين في تراث الأمم الأخرى وتفريغهم لترجمة كتبها، في أول مشروع علمي للترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية.

وفي ذلك يقول النديم أو ابن النديم (ت 384هـ/995م) في كتابه ‘الفِهْرِسْتْ‘: “وعندما خطر ببال خالد الصنعة؛ أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر وقد تفصّحـ[ـوا] بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي. وهذا أول نقل (= ترجمة) كان في الإسلام من لغة إلى لغة”.

ووفقا لما يذكره ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) في ‘معجم الأدباء‘؛ فإن إسحق الموصلي (ت 235هـ/849م) –الذي وصفه الذهبي بأنه “الإمام العلامة الحافظ.. صاحب الموسيقى”- قد تنبّه إلى أهمية التجربة العلميّة الثريّة لمحمد بن زياد الكوفي (المعروف بابن الأعرابي توفي 231هـ/846م)، الذي زار بوادي العرب وأخذ عنهم اللغة؛ فكان يُجري عليه المكافآت ليفرّغه لتعليم العربية، وتدوين ما أخذه من أفواه الأعراب من مفرداتها الفصيحة وأساليبها الصحيحة، وهو ما يضاهي اليوم مِنَح البحث العلمي التي تقدمها الجامعات والمؤسسات البحثية، وتكفل للدارسين فرصة التفرغ لإنجاز مشاريع كتبهم وأبحاثهم العلمية.

تنويع وتنافس
وقد سادت ثقافة المِنَح وتنوعت طرق تقديمها واختيار مستحقيها حتى صارت من أعظم أبواب البِرّ، وصارت تؤدَّى من بلد إلى بلد وتُتَحرَّى فيها السرّية أحيانا؛ ففي ترجمة إبراهيم بن سعيد الرفاعي النحوي الضرير (ت 411هـ/1021م) ضربٌ متميز من المنح التعاونية بين الطلاب أنفسهم. فقد جاء الرفاعي -وهو صبي أعمى- إلى مدينة واسط جنوبي العراق، فدخل المسجد الجامع “وجلس في حلقة عبد الغفار الحُضَيْني (ت 366هـ/977م) فتَلَقَّن القرآن، وكان معاشُه من أهل الحلقة”، أي أن الطلاب أنفسهم تكفلوا باحتياجاته مما أعانه على مواصلة طلب العلم حتى أصبح “صَدْراً (= عالما مقدَّما) يُقرئ الناس في الجامع” بعد وفاة شيخه الحضيني؛ حسب المؤرخ الوزير جمال الدين القِفْطي (ت 646هـ/1248م) في ‘إنْباه الرُّواة على أنْباه النُّحاة‘.

ويقول الإمام المحدّث إبراهيم الحَرْبي (ت 285هـ/898م) فيما يرويه عنه ياقوت الحموي في ‘معجم الأدباء‘: “كان لي بيت في دهليز داري فيه كتبي، فكنت أجلس فيه للنَّسْخ والنظر (= المطالعة)، فلما كانت ليلة.. إذا داقٌّ يدُقُّ الباب، فقلت من هذا؟! قال: رجل من الجيران، فقلتُ: ادخل، فقال: أطفئ السراج حتى أدخل، فكببت على السراج شيئًا، وقلتُ: ادخل، فدخل وترك إلى جانبي شيئًا وانصرف، فنظرت فإذا منديلٌ له قيمة.. فيه خمسمئة درهم”! وحدَّث الحربي أيضا قال: “جلست مرة على باب داري -وكان وقت مجيء الحاج من خراسان- وإذا جمّال يقود جملين عليهما حِملان رزقاً، فدفعهما إليّ وقال هذه لإبراهيم الحربي، وقد استحلفني صاحبها ألّا أذكر اسمه”!!

وأحيانا تكون منحة الإعانة على شكل كسوة لباس يوزع على الطلاب؛ ففي سنة 831هـ/1428م وصل إلى الشيخ علاء الدين ابن البخاري الحنفي (ت 841هـ/1437م) من سلطان منطقة “كلبرجا -من بلاد الهند- ثلاثةُ آلاف شاش (= الشالات)، ففرق منها ألفاً على الطلبة الملازمين له”. وهذا الشاش يُعَدُّ من أفخر الثياب وأغلاها حتى إنه كان مما تتهادى به الملوك فيما بينها؛ فمثلا يذكر المؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في كتابه ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- أن “هدية المؤيد (الرسولي سلطان اليمن المتوفى 721هـ/1321م) للملك الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م) كان فيها قدر ألفيْ شاش” هندي!!

وقد اتخذت هذه المنح أحيانا شكل جوائز نقدية تقدم لمن يدرس كتابا علميا فيحفظه ويتقنه، وقد تتفاوت الجوائز في حجمها ونوع نقدها تبعا للتباين بين المؤلفات في الأهمية العلمية والمكانة المذهبية. ومن نماذج ذلك ما أورده الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- من أن ملك دمشق المعظَّم عيسى ابن العادل الأيوبي (ت 624هـ/1227م) “كان يتعصب لمذهبه [الحنفي]، قد جعل لمن عرض [كتاب] ‘المفصَّل‘ (= ‘المفصَّل في علم العربية‘ للزمخشري المعتزلي الحنفي المتوفى 538هـ/1143م) مئة دينار..، ولمن عرض ‘الجامع الكبير‘ [في الفقه للإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ/805م)] مئتيْ دينار”.

كانت رعاية طلاب العلم شرفًا يتسابق إليه الأمراء والكبراء من التجار والعلماء ومن المنتسبين إلى مختلف المِلَل والمذاهب؛ فمن الخلفاء والسلاطين الذين اشتهروا ببذل المنح لطلبة العلم والعلماء الخليفة العباسي هارون الرشيد (ت 193هـ/809م) وابنه المأمون (ت 218هـ/833م). ومنهم السلطان نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ/1173م) والسلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) وأخبارهما في بناء المدارس كثيرة، سنورد منها طرفا لاحقا.

ومن الوزراء الذين عُرفوا بها كذلك الوزير العباسي الفتح بن خاقان (ت 247هـ/861م) الذي كان يتعهد إمامَ النثر العربي أبا عثمان الجاحظ (ت 255هـ/869م) وغيره من كبار الأدباء فكان يعطيهم عطاء سخيًا، حتى إنه استخلص للجاحظ من ميزانية الدولة ما يكفيه نفقة عام كامل ليتفرغ للتأليف. ولذلك كتب إليه مرة قائلا: “اعكف على «كتاب الرد على النصارى» وافرغ منه وعجِّل به إليّ…، لتنال مشاهرتك (= راتبك الشهري)، وقد… استسلفتُ لك [راتباً] لسنة كاملة مستقبلة”!!

وكان وزير الإخشيديين بمصر أبو الفضل ابن حِنْزابَة (ت 391هـ/1002م) عالما “مولعًا بالعلم واقتناء الكتب والنفقة على العلماء”؛ على حد قول الإمام الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- الذي وصفه بأنه “الإمام الحافظ الثقة…، وبسببه خرج الدارقطني.. إلى مصر، وأقام عنده مدة وحصل له منه مال كثير”.

كفالة علمائية
ومن العلماء الموسرين الذين اشتهروا بمنح طلاب العلم وإعانتهم الإمام أبو حنيفة كما تقدم في قصته مع تلميذه أبي يوسف، وكذلك إمام مصر الليث بن سعد الفارسي القَلْقَشَندي (ت 175هـ/791م) الذي كان تاجرا فخصص راتبًا للإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) يكفل له التفرّغ العلمي لتدريس الحديث والفقه بالمدينة المنورة، كما تفعل الجامعات اليوم مع أستاذتها المنتجين حين تمدهم بما يكفيهم همّ الرزق. فقد روى الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- عن حرملة بن يحيى التُّجِـِيبي المصري (ت 243هـ/857م) أنه قال: “كان الليث بن سعد يصل مالكا بمئة دينار في السنة (= اليوم 20 ألف دولار أميركي تقريبا)، فكتب مالك إليه: عليَّ دَيْنٌ؛ فبعث إليه بخمسمئة دينار”!

ومنهم إمام المالكية بتونس أبو محمد عبد الله ابنُ أبي زيد القيرواني (ت 386هـ/997م) صاحب الكتاب الفقهي المعروف بـ‘رسالة ابنُ أبي زيد‘؛ فقد ذكر أبو زيد الدباغ الأنصاري (ت 696هـ/1297م) -في كتابه ‘معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان‘- أنه كان يرعى “طلبة العلم، كان ينفق عليهم ويكسوهم ويزوِّدهم”. ويورد ابن الدباغ من أمثلة ذلك أن القيرواني جاءه للقراءة عليه “بعضُ طلبة الأندلس.. فأكرمه وأنزله وأجرى عليه ما يحتاج إليه من نفقة”!

كما كان ابنُ أبي زيد يعين نظراءه من العلماء؛ ومن أمثلة ذلك أنه “وَصَل يحيى بن عبد الله المغربي (لعله يحيى بن عبد الله بن يحيى الليثي المتوفى 367هـ/978م) حين قدم القيروان بمئة وخمسين ديناراً ذهبا”، وبعث إلى القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي (ت 422هـ/1032م) “بألف دينار عَيْناً” وهو في بغداد، وكان البغدادي إمامَ المذهب المالكي في العراق بل وفي عصره كله.

ومنهم كذلك أبو الحسن النَّيْسابوري (ت 355هـ/966م) الذي وصفه الذهبي -في ‘تذكرة الحفاظ‘- بأنه “التاجر أحد الأئمة”، وقال إنه كان ذا “إنفاق على الطلاب”. وكذلك الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) الذي قال عنه تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م) في ‘طبقات الشافعية‘: “وكان للخطيب [البغدادي] ثروة ظاهرة وصدقات على طلاب العلم دارّة يهب الذهب الكثير للطلبة”!!

ويذكر الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- أن الإمام المؤرخ عز الدين ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) “كان منزله مأوى طلبة العلم”. ومن العلماء الذين كانوا يقدمون المنح للطلبة الإمام المتكلم عضُدُ الدين الإيجي الشافعي (ت 756هـ/1355م) الذي كان له “مالٌ جزيلٌ وإنعامٌ على طلبة العلم”؛ كما يخبرنا السبكي في طبقاته.

ومن اللطيف أن مقدمي المنح والإعانات العلمية –وكذلك المستفيدون منها- لم يكونوا من المسلمين حصرا، بل كانوا أيضا من أبناء الأقليات الدينية في الحضارة الإسلامية، وهو ما كان يمثل أحد مظاهر التعايش الديني الإيجابي الذي ساد معظم حقب التاريخ الإسلامي. فهذا أمين الدولة ابن التلميذ النصراني البغدادي (ت 560هـ/1165م) -الذي انتهت إليه رئاسة مهنة الطب في عصره حتى قال عنه الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- إنه “شيخ الطب: بقراط (اليوناني أبقراط الملقَّب أبا الطب والمتوفى 477ق.م) عصره وجالينوس (ت 216م) زمانه”- كان راتبه السنوي “يزيد كلَّ سنة على عشرين ألف دينار (= اليوم أربعة ملايين دولار أميركي تقريبا)، وكان ينفق جميع ذلك على طلاب العلم والغرباء وغيرهم، وكان نصرانيَّ الملة”؛ وفقا للمؤرخ ظهير الدين ابن فندمه البيهقي (ت 565هـ/1170م) في كتابه ‘تتمة صوان الحكمة‘.

ويضيف الذهبي أن ابن التلميذ كانت داره ملتصقة بالمدرسة النظامية في بغداد التي كانت تدرِّس العلوم الشرعية “فإذا مرِض فقيه [من فقهائها] نقَلَه إليه، وقام في مرضه عليه (= عالجه)، فإذا أَبَلَّ (= تماثل للشفاء) وهب له دينارين” قبل أن يودّعه إلى مكان إقامته.

وكما نرى اليوم في أنظمة المنح التعليمية المعاصرة؛ فإن المنحة كانت ترتبط أحيانا كثيرة بشروط معينة، فلا يستحقها الطالب أو العالم إن لم تتوفر فيه تلك الشروط. ومن ذلك أن اختلاف الديانة أو المذهب الفقهي قد يؤدي أحيانًا إلى وقف المنح العلمية إذا صدر من الممنوح ما يسيء إلى مذهب المانح أو ما لا يرضى عنه من الآراء.

ففي ترجمة أبي زيد أحمد بن سهل البَلْخي (ت 322هـ/934م) -في ‘الفِهْرِسْتْ‘ للنديم- ورد قول البلخي: “كان الحسين بن علي المَرْوَرَّوْذِي (القائد العسكري الساماني المتوفى بعد 302هـ/914م).. يُجري عليّ صِلاتٍ معلومةً دائمةً، فلما أمليتُ (= ألّفت) كتابي ‘في البحث عن كيفية التأويلات‘ قطعها عني. وكان لأبي علي الجَيْهانيّ (الوزير الساماني 375هـ/986م).. جَوارٍ (= مرتّبات) يدرّها عليّ، فلما أمليتُ كتابي ‘القرابين والذبائح‘ حَرَمَنيها. وكان الحسين قُرْمُطيًا (= من القرامطة)، والجيهانيّ ثَنَويًّا”، أي منتسبا إلى “الثنوية” وهي النِّحلة الزرادشتية القائلة بأزلية ثنائية النور والظلام.

 منح مشروطة
وقد بلغ تفنن المسلمين في تخصيص المنح لطلاب العلم أن أوقفوا الأموال لتوفير القرطاسيات والمكتبات المتخصصة لطلاب العلم والعلماء، خاصة أن وقف الكتب انتشر في الحضارة الإسلامية منذ وقت مبكر لإعانة طلاب العلم على تحصيل شتى المعارف. فقد ذكر الحموي -في ‘معجم الأدباء‘ ضمن ترجمة الحافظ أبي صالح النيسابوري المؤذن (ت 470هـ/1077م)- أن النيسابوري كان مسؤولا عن “الودائع من كتب الحديث المجموعة في الخزائن (= المكتبات) الموروثة عن المشايخ [من العلماء]، الموقوفة على أصحاب الحديث، وكان يصونها ويتعهّد حفظها، ويتولى أوقاف المحدّثين من الحِبر والكاغد (= وَرَق الكتابة) وغير ذلك، ويقوم بتفرقتها عليهم وإيصالها إليهم”.

وعُرفت القبة الغربية للجامع الأموي -التي بُنيت في حدود سنة 160هـ/681م- بـ”قبة عائشة”، وكانوا “جعلوها لحواصل (= ممتلكات) الجامع وكُتُب أوقافه” المخصصة لطلبة العلم والباحثين من العلماء؛ على ما نقله الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- عن شيخه الذهبي. وقد ترجم الإمام ابن النجار البغدادي (ت 643هـ/1245م) -في ‘تتمة ذيل تاريخ بغداد‘- للفقيه والأديب الحنبلي مجد الدين عُبيد الله بن علي البغدادي التيْمي المعروف بابن المارستانية (ت 599هـ/1203م) فقال إنه “بنى دارا بدرب الشاكرية [ببغداد] وسماها «دار العلم»، وجعل فيها خزانةَ كتبٍ، وأوقفها على طلاب العلم”.

وأنشأ الوزير البويهي بَهْرام بن مافِّنَهْ (ت 433هـ/1043م) في مدينة فيروزآباد الواقعة اليوم غربي إيران “دارَ كُتُب وقَفها على طلاب العلم، وجمع فيها عشرة آلاف مجلد ما فيها إلا أصلٌ منسوب (= الخط المُتْقَن الذي تتناسب أبعاد حروفه هندسيا)، منها أربعة آلاف ورقة بخط ابن مُقْلة (الخطاط البغدادي الشهير المتوفى 328هـ/939م)”؛ كما يخبرنا سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في ‘مرآة الزمان في تواريخ الأعيان’.

وكان لطلاب الأدب رعاية مالية أسوة بزملائهم من طلاب العلوم الشرعية بمعناها الضيق؛ فالمؤرخ أبو علي مِسْكَوَيْه الرازي (ت 421هـ/1031م) يحدثنا -في ‘تجارب الأمم وتعاقب الهمم‘- أنه في سنة 312هـ/924م “فرّق ابن الفرات (الوزير العباسي أبو الحسن ابن الفرات المتوفى 312هـ/924م) على طلّاب الأدب مالا، وعلى من يكتب الحديث مثله، وكان السبب في ذلك أنّه جرى حديثهم في مجلسه فقيل: لعلّ الواحد منهم يبخل على نفسه بِدانِقِ فضّةٍ (= اليوم 20 سنتاً أميركيا تقريبا) -أو دونها- ويصرفه إلى ثمن ورق وحبر”!!

ومن اللطائف في هذا الباب ما كان يوقف من الكتب الطبية في المستشفيات لتكوين طلاب الطب والصيدلة، ككتاب سابور بن سهل (ت 255هـ/869م) المسمى “الأقراباذين” (= علم صناعة الأدوية) “وهو الذي كان من المعمول عليه في البيمارستان ودكاكين الصيادلة، وخصوصا قبل ظهور ‘الأقراباذين‘ الذي ألفه أمين الدولة بن التلميذ”؛ وفقا للطبيب موفق الدين ابن أبي أُصَيْبعة (ت 668هـ/1269م) في ‘عيون الأنباء في طبقات الأطباء’.

وما دمنا في ذكر الكتب الموقوفة لصالح الطلاب والعلماء؛ فثمة قصة طريفة في المنح العلمية تبيّن حسن تدبير من الأستاذ لتلميذه وجميل عنايته بمصلحته ونجاح مستقبله، وربما تعد سبقا حضاريا لما يُعرف اليوم بصناديق أو مشاريع/برامج الاستثمار الطلابية؛ فلندعْ الإمام اللغوي أبا إسحق إبراهيم بن السَّرِيّ الزَّجَّاج (ت 311هـ/923م) يحكي لنا هذه القصة التي جرت له مع شيخه الإمام النحوي المبرّد (ت 286هـ/899م)، حين أراد أن يقرأ عليه ‘كتاب سِيبَوَيْه‘ في النحو.

يقول الزَّجَّاج فيما أورده الحموي عنه في ‘معجم الأدباء‘: “أتيتُ أبا العباس ابن يزيد المبرّد حين دخل بغداد لأقرأ عليه ‘الكتاب‘ (= كتاب سِيبَوَيْه) فقال لي: ما صَنْعتُك؟ فقلت: زَجّاج، فقال لي: كم تكسب في كل يوم؟ قلت: عشرة [دراهم] فما دونها، قال: جِئْ كل يوم بنصف ما تعمل فتطرحه في هذا الصندوق، وكان عنده صندوق معمول لهذا؛ قال: فبدأت بقراءة الكتاب، وكلما جئت بشيء طرحته في الصندوق. ولما فرغت من الكتاب وختمته؛ رمى بمفتاح الصندوق إليّ وقال لي: افتح وخذ ما تركتَ فيه، ففتحت وأخذت جميع ما فيه، وكان قد اجتمع [فصار] شيئا كثيرا كبيرا؛ فرحم الله أبا العباس، فلقد آساني وأغناني وعلمني”!!

مَأسسة للمنح
ومن أشكال المنح التي شاعت في الحضارة الإسلامية بناءُ المدارس المستقلّة عن المساجد، وإجراء المنح المالية على الدارسين والمدرّسين فيها، بميزانيات أوقاف أهلية يرصدها المحسنون من أبناء المجتمع، سوى ما كانت الدول تنشئه من هذه المدارس وتموله في شتى أصقاع البلاد الإسلامية؛ فكان على أساسها اعتماد مختلف المدارس العلمية (فقهاً وحديثاً وطبًّا وفلكاً وهندسة… إلخ)، إذ كانت تقدم تعليما مجانيًا وتقدم للمنتسبين إليها مِنحاً مالية ثابتة.

وقد وَهِمَ الإمامان ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) والذهبي في نسبتهما إنشاء المدارس المستقلة إلى الوزير السلجوقي نظام الملك (ت 485هـ/1092م) وقولهما إنه أول من أسسها. وردّ على الذهبي -في ذلك- تلميذه السبكي في ترجمته لنظام الملك؛ فقال: “وشيخنا الذهبي زعم أنه أول من بنى المدارس؛ وليس كذلك، فقد كانت المدرسة البيهقية بنيسابور قبل أن يولَد نظام الملك، والمدرسة السعدية بنيسابور أيضا بناها الأمير نصر بن سُبُكْتِكِين (ت 412هـ/1022م)”.

ويقال إن مدرسة نظام الملك اشتهرت لأنه أول من أجرى رواتب للمعلمين العاملين في المدارس حين “رغّب في العلم كل الناس وأجرى ووقف على الطلبة والمدرسين”؛ كما يقول ابن الصلاح (ت 643هـ/1245م) في ‘طبقات الفقهاء الشافعية‘، ويؤكد ذلك الذهبي بقوله إنه “رغَّب في العلم وأدرَّ على الطلبة الصِّلات”. وليست هذه الأولية دقيقةً؛ فقد ذكر ياقوت الحموي أن مدرسة الإمام ابن حِبّان البُستي (ت 354هـ/965م) رُصدت للدارسين فيها مرتّبات.

ولئن كان “أول من حُفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور” كما يقول علامة الشام محمد كرد علي (ت 1373هـ/1953م) في كتابه ‘خطط الشام‘، انطلاقا ربما من نص السبكي المتقدم؛ فإن الحقيقة تقضي بأن إنشاء المدارس المستقلة عن المساجد كانت فكرة تراود خلفاء بني العباس، على الأقل منذ أواخر القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي. إذ يخبرنا المقريزي -في كتابه ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار’- أن الخليفة العباسي المعتضد بالله (ت 289هـ/902م) -الذي ولي الخلافة 279هـ/892م- لما أراد بناء قصره في حي الشماسية ببغداد “زاد في مساحته ليبني دُورًا لأصحاب الصناعات والعلوم والمذاهب، وقرر أن يجري عليهم أرزاقًا” من بيت المال العام.

ويقول المقريزي إن خليفة الفاطميين العزيز بالله (ت 386هـ/997م) هو الذي جعل من الجامع الأزهر مدرسة سنة 378هـ/989م، وذلك بإشارة من وزيره يعقوب بن كِلِّس البغدادي (ت 380هـ/991م) الذي طلب منه تخصيص “صلة رزق [لـ]ـجماعة من الفقهاء، فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم من الرزق الناضّ (= راتب نقدي)…، وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كل سنة. وكانت عِدَّتهم خمسة وثلاثين رجلا”.

ريادة وتوسع
على أن كل تلك التصويبات التاريخية لا تنقص من مكانة سلسلة “المدارس النِّظامية” -وخاصة مدرسته التي بناها بالجانب الشرقي من بغداد سنة 459هـ/1068م- الرائدة في مؤسسيتها الإدارية، والراسخة في عطائها العلمي التاريخي، وفي سعة الانتشار التي تحققت لها بمضاء وسخاء مؤسسها الوزير العالِم نظام الملك، الذي يقول عنه السبكي في ‘طبقات الشافعية‘: “يقال إن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة”! لقد غطّت “المدارس النِّظامية” أهم حواضر الدولة السلجوقية على امتداد يناهز 5000كم، وكانت أبرز فروعها في بغداد والبصرة والموصل ونيسابور وأصفهان ومَرْو وهَرَاة وبَلْخ.

ويذكر ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في كتابه ‘المنتظم‘- أنّ الوزير نظام الملك “كفى أهلَ العلم أمرَ دنياهم”، وكان “أحسنَ خِلاله (= صفاته) مراعاةُ العلماء وتربية العلم، وبناء المدارس والمساجد والرباطات والوقوف (= الأوقاف/الوقف) عليها، وأثره العجيب ببغداد هذه المدرسة وسوقها الموقوف عليها”. ثم عدَّد ابن الجوزي من طاقمها التعليمي “المدرِّس الذي يكون بها، والواعظ الذي يعظ بها، ومتولي الكتب، وشرط أن يكون فيها مقرئ القرآن، ونحوي يدرس العربية، وفَرَض لكل قسطا من الوقف”!! وأضاف إليهم الذهبي الطلاب فقال -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- إن الوزير نظام الملك “رَغَّبَ في العلم وأَدرَّ على الطلبة الصِّلاتِ”.

وكان من أعظم المنن التي أسدتها “المدارس النِّظامية” -التي أسسها الوزير نظام الملك- للمسلمين انتشالُها للصبي الذي مات عنه أبوه وعهِدَ به -مع ما تيسر من ماله- إلى أحد أصدقائه من المتصوفة، فلما نفد المال وخشي الوصي على الصبي الضياع اقترح عليه دخول فرع المدرسة النظامية في نيسابور، لتوفيرها المسكن والمطعم لطلابها، على ما يرويه السبكي في ‘طبقات الشافعية‘؛ ثم أصبح هذا الصبي -الذي دخل المدرسة هربًا من الفقر والفاقة- صاحبَ لقب “حجة الإسلام”، ولم يكن سوى أبي حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م).

وقد سجّل التاريخُ للسلطان نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ/1173م) أنه أول من أسس مدرسة لتدريس الحديث النبوي، وهي التي أقامها في دمشق وأوقف عليها أوقافًا كثيرة لينتفع منها مرتادوها. كما “نصب جماعةً من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم وعليهم (= اليتامى) وبقدر ما يكفيهم. وكذلك صَنَع لما مَلَك سنجار وحرّان والرُّها والرقة ومنبج وشيزر وحماة وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر…، وحصَّل الكثيرَ من كتب العلوم ووقفها على طلابها، وأقام عليها الحَفَظة من نَقَلتها وطلابها وأربابها”؛ طبقا لمعاصره الإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ‘تاريخ دمشق‘.

طفرة أيوبية
وبعد نور الدين جاء الوارث الأكبر لدولته ونهجه الإصلاحي الشاملِ السلطانُ صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) فبنى مدارس كثيرة في الشام ومصر وأوقفها على أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة، وكان من أعظم تلك المدارس “المدرسة الصلاحية” التي أسسها في القدس سنة 588هـ/1192م، فكانت تدرّس العلوم الشرعية والفلك والهندسة. وقد دُهش الرحالةُ الفقيهُ ابن جُبَير الأندلسي (ت 614هـ/1217م) لما تجول في البلاد العربية بالمشرق الإسلامي من كثرة المدارس فيه، وضخامة الأموال الوقفية المرصودة لدعم الحياة التعليمية والإنفاق على مرافقها الخدمية والمتفرغين لها من العلماء والطلاب، واصفا ذلك بأنه “من المفاخر الإسلامية”!!

فحين زار مصر سنة 578هـ/1182م وهو في طريقه إلى الحج؛ وصف -في كتاب رحلته- ما رآه من المدارس العامرة بالطلاب والمدرِّسين الجامعة لشتى العلوم، وما يتبعها من ملاحق معدة لسكن الطلاب، فقال: “ومن مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه (= صلاح الدين): المدارسُ والمحارس (= مواضع حراسة بالثغور للمرابطين للجهاد) الموضوعة فيه لأهل الطلب والتعبد، يفِدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنًا يأوي إليه، ومدرِّسًا يعلمه الفن الذي يريد تعلمه، وإجراءً (= راتب) يقوم به في جميع أحواله”!!

وبعد حجّه؛ قصد بغداد أوائل سنة 580هـ/1184م فذكر أن فيها ثلاثين مدرسة توجد كلها في ناحيتها الشرقية فقط. ولما حلّ بدمشق في السنة نفسها وصف كثرة الأوقاف على المؤسسات المجتمعية -وفي صدارتها التعليم- في أيام صلاح الدين، وما كان يجري في ذلك من تنافس بين أهل الدولة الأيوبية (567-647هـ/1174-1249م) رجالا ونساء. فقال عن دمشق إن “البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيه. وكل مسجد يُستحدَث بناؤه أو مدرسة أو خانقة (= خانقاه: مدرسة للصوفية) يعين لها السلطان أوقافا تقوم بها وبساكنيها والملتزمين لها، وهذه أيضا من المفاخر المخلّدة. ومن النساء الخواتين (= الأميرات) ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة، وتُنفق فيها الأموال الواسعة وتعيِّن لها من مالها الأوقاف، ومن الأمراء من يفعل مثل ذلك؛ لهم في هذه الطريقة المباركة مسارعة مشكورة عند الله عز وجل”!

وسجّل لنا جانبا من رعاية المدرسين والدارسين صغارا وكبارا؛ فقال -متحدثا عن التعليم في الجامع الأموي بدمشق- إن “فيه حلقات للتدريس للطلبة، وللمدرسين فيها إجراءٌ واسع…، ومرافق هذا الجامع المكرَّم للغرباء وأهل الطلب (= طلاب العلم) كثيرة واسعة. وأغرب ما يُحدَّث به أن سارية من سواريه… لها وقف معلوم يأخذه المستنِد إليها للمذاكرة والتدريس”!

كما تحدث عن مخصصات تعليم الأطفال عامة داخل الجامع الأموي؛ فذكر أن “للصبيان أيضا على قراءتهم جراية معلومة. فأهلُ الجِدَة (= الأغنياء) من آبائهم ينزهون أبناءهم عن أخذها، وسائرهم يأخذها، وهذا من المفاخر الإسلامية”. ثم أفرد حديثه لفئة خاصة من الأطفال هم اليتامى الذين يبدو أنهم خصصت لهم أماكن للتعليم خارج الجامع؛ فقال إن “للأيتام من الصبيان محضرة (= كُتّاب) كبيرة بالبلد، لها وقف كبير يأخذ منه المعلم لهم ما يقوم به، وينفق منه على الصبيان ما يقوم بهم وبكسوتهم؛ وهذا أيضاً من أغرب ما يُحدَّث به من مفاخر هذه البلاد”!!

زينة الدنيا
وقُبيل تقوُّض خلافة بني العباس تحت ضربات جحافل المغول الغاشمة سنة 656هـ/1258م؛ أسس الخليفة العباسي أبو جعفر المستنصر بالله (ت 640هـ/1242م) عام 630هـ/1233م المدرسة المستنصرية –التي استفتحنا هذه المقالة بذكرها- للمذاهب الأربعة وتدريس الحديث النبوي والطب، وكانت على شاطئ نهر دجلة بجانب قصر الخلافة، وهي مدرسة عظيمة لا نظير لها في الحسن والسعة وكثرة الأوقاف.

وفي ذلك يقول سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في كتابه ‘مرآة الزمان في تواريخ الأعيان’: “وكان (= المستنصر) جواداً سمحا عادلاً، عمر المدرسة الشاطئية (= المستنصرية) ووقفها على المذاهب الأربعة، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة، ورتب للفقهاء جميع ما يحتاجون إليه من الأطعمة والأشربة والجوامك (= المرتّبات) والفواكه، ولم يكن عنده تعصب على مذهب، وليس في هذه الدنيا مثل هذه المدرسة، ولا بُني مثلها في سالف الأعوام”.

ويضيف الإمام المؤرخ ابن كثير إلى ذلك أن المستنصر بنى “فيها دارَ حديثٍ وحماما ودارَ طِبٍّ…، ووقف فيها كتبا نفيسة ليس في الدنيا لها نظير، فكانت هذه المدرسة جمالا لبغداد وسائر البلاد”!! وقد أحصى المؤرخ العراقي ناجي معروف العبيدي (ت 1397هـ/1977م) عدد المدرسين المتخصصين في الفقه فيها، فكانت نسبة الطلاب إلى الأساتذة: أستاذا واحدا لكل 12 طالبا. وهذا دليل على جودة التعليم ورقيّه في تلك الجامعة الباذخة.

وفي عصر الدولة المملوكية (648-922هـ/1250-1517م)؛ يقول المقريزي -في كتابه ‘السلوك‘- إن السلطان الظاهر بَرْقُوق (ت 801هـ/1398م) “أنشأ بالقاهرة مدرسة لم يُعمَّر مثلها بالقاهرة…، وأجرى على الجميع في كل يوم الخبز النقي ولحم الضأن المطبوخ. وفي كل شهر الحلوى والزيت والصابون والدراهم، ووقف على ذلك الأوقاف الجليلة من الأراضي والدُّور (= العقارات المؤجَّرة) ونحوهما”. كما ابتنى “مكتبا (= كُتّابا) يقرأ فيه الأيتام القرآن الكريم بقلعة الجبل، وجعل عليه وقفا دارًّا”.

ولم يكن بناء المدارس وقفا على الرجال فقط، بل إن للنساء فيه مساهمة مشهودة، كما سبق نقله عن الرحالة ابن جبير في نساء الشام. وفي اليمن على عهد الدولة الرسولية؛ يحدثنا المؤرخ بهاء الدين الجَنَدي (ت 732هـ/1332م) -في ‘كتاب السلوك في طبقات العلماء والملوك‘- أن السيدة دار الدملوّة بنت الملك المظفر الرسولي (ت 694هـ/1295م) بنَتْ مدرستين إحداهما في مدينة زَبيد والأخرى في ظَفَار، وكذلك أوقفت أختُها دار الأسدية مدرستين في هاتين المدينتين.

وعلى العموم؛ يلخص لنا الدكتور مصطفى السباعي (ت 1384هـ/1964م) -في كتابه ‘من روائع حضارتنا‘- دَور الأوقاف الأهلية في رعاية مجتمع العلم والعلماء، حسبما بلغه أمرها في منطقة الشام في حقبة فاصلة شهدت نهاية الدولة المملوكية وصعود وريثتها الدولة العثمانية. فنجده يقول -اعتمادا على ما أورده المؤرخ النعيمي الدمشقي (ت 927هـ/1523م) في كتابه ‘الدارس في تاريخ المدارس‘- إنه “كان في دمشق وحدها للقرآن الكريم سبع مدارس، وللحديث ست عشرة مدرسة، وللقرآن والحديث معا ثلاث مدارس، وللفقه الشافعي ثلاث وستون مدرسة، وللفقه الحنفي اثنتان وخمسون مدرسة، وللفقه المالكي أربع مدارس، وللفقه الحنبلي إحدى عشرة مدرسة. هذا عدا عن مدارس الطب والرباطات والفنادق والزوايا والجوامع، وكلها كانت مدارس يتعلم فيها الناس”.

استثناء أندلسي
لقد كانت لهذه المدارس فائدة عظيمة على العلم، إذْ جعلت التعليم المجاني المتميز مشاعا بين أبناء الحضارة الإسلامية من كل المذاهب والمشارب؛ فألغت بذلك النخبوية في المجتمع واحتكار العلم على فئة دون فئة، ولم تعرف ما أصبح مشهودا لدينا اليوم من التمايز بين الجامعات العالمية، حيث ارتبطت جودة التعليم بثراء المنتسِب إليها، ودونكم ترتيب الجامعات الأفضل في العالم ورسوم التسجيل فيها المحلقة في أعالي سماء الغلاء. ولنضرب مثالًا على فضل هذه المدارس على العلوم -بما فيها تلك الطبيعية منها- لنرى إلى أي حد كان منتسبوها حريصين على تقريب العلوم إلى عامة الناس وبذلها للجمهور؛ وذلك بما قيل مثلا عن العالم الجغرافي والفلكي زكريا بن محمد بن محمود الأنصاري القَزويني (ت 682هـ/1283م)، والذي كان أيضا فقيها وقاضيا تخرّج في إحدى مدارس بالعراق.

فقد ذكر كبير المستشرقين الروس إغناطيوس كراتشكوفسكي (ت 1371هـ/1951م) –في ‘تاريخ الأدب الجغرافي العربي‘- أن القزويني هذا كان أبرع العلماء المسلمين في علم وصف الكون (الكوزموغرافيا)، وأكثرهم قاطبة قربًا من الجماهير لبساطة أسلوبه وقربه من الوضوح. ويشيد كراتشكوفسكي بكتاب القزويني المسمى “عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات” ودوره في تبسيط فن الكوزموغرافيا؛ فيقول إن “كوزموغرافيا القزويني هي أهم أثر أنتجه كاتب عربي في العصور الوسطى” في مجالها العلمي، ويصف بأنه كان “بلا ريب نابغة كمبسِّط للمعارف يعرض مادته العلمية في كثير من المهارة، بحيث لا تنفّر القارئ العام. ولديه مقدرة فائقة في تبسيط أكثر الظواهر تعقيدا، وذلك بطريقة جذابة واضحة، كما أن أسلوبه يجمع بوجه عام بين البساطة والتنوع”!

ورغم شيوع هذه المدارس المجانية في معظم بلاد المسلمين حتى صارت هي السمت الغالب لمؤسسات التعليم لديهم؛ فإنه من العجيب أن بلاد الغرب الإسلامي -وخاصة الأندلس على عِظَم تحضرها الذي بلغت فيه شأوًا بعيدًا- لم تحقق فيها المدارس الوقفية الحضور الذي أحرزته في حواضر المشرق، ولعل ذلك يفسر لنا الإعجاب المدهش الذي تملّك الرحالة ابن جبير الأندلسي وهو يشاهد واقع الحياة العلمية في تلك الحواضر.

لكن تلك المعلومات الغزيرة التي رصدها ابن جبير عن ظاهرة المدارس في المشرق الإسلامي ربما ألهمت المؤسس الفعلي للدولة الحفصية بتونس وجوارها أبا زكريا يحيى بن عبد الواحد الحفصي (ت 647هـ/1249م)، ليكون أول من نقل تلك التجربة إلى الفضاء المغربي. فقد ذكر المؤرخ التونسي محمد ابن أبي دينار القيرواني (ت نحو 1111هـ/1690م) أن السلطان أبا زكريا “بنى المدرسة التي بطرف سوق الشماعين” في تونس العاصمة خلال فترة حكمه (625-647هـ/1228-1249م)، وهي المؤسسة التعليمية النظامية التي عُرفت تاريخيا بـ”المدرسة الشماعية” وخرّجت طائفة كبيرة من أعلام الفقهاء والقضاة والأدباء، وما زال بناؤها باقيا إلى اليوم شاهدا على كونها أعرق مدرسة في البلاد التونسية.

أما الأندلس فتشهد تراجم أعلامها بأن التعليم لم يكن مجانيًا فيها، حتى قال مؤرخها شهاب الدين المَقَّري (ت 1041هـ/1631م) -في ‘نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب’- إنه “ليس لأهل الأندلس مدارس تُعينهم على طلب العلم، بل يقرؤون جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرؤون لأن يعلموا لا لأن يأخذوا جاريا (= راتباً)”! ولربما كان ذلك الإنفاق الشخصي على التعليم -بدلا من تلقّيه مجانا- أحد أسباب التميز العلمي الذي عُرف به علماءُ الأندلس منذ بداية قيام الحضارة الإسلامية فيها وحتى أفول نجمها الثاقب!!

مشاركة