بعد إهمال وتخريب دام أكثر من قرنين.. جامع “الظاهر بيبرس” يُبعث من جديد في القاهرة
بعد أكثر من 20 عاما من بداية إعادة بناء الجامع وإعادته للمصلين من جديد، آن الأوان لروح الملك الظاهر بيبرس أن تهدأ في مرقده، بعد أن تحالفت الأقدار على تخريب مسجده، ويتوقع افتتاح الجامع بعد أيام في احتفال كبير بالقاهرة.
مسجد الظاهر الجامع يعد أحد أفخم وأضخم مساجد مصر، ولكن جرى تخريبه وهدمه منذ أكثر من قرنين من الزمان وتحويله إلى معسكر ومخبز ومصنع للصابون، ثم إلى مجزر ومسلخ في عهد الاحتلال البريطاني لمصر، حتى اشتهر ميدانه بين العامة في مصر بميدان “المدبح الإنجليزي”.
إنها سيرة مأساوية طويلة لجامع أثري بناه السلطان الظاهر بيبرس البندقداري منذ أكثر من 750 عاما، وقت أن كان سلطان مصر والشام (1260-1277م)، وإن لم يكن بيبرس هو المؤسس الحقيقي لدولة المماليك، فهو واحد من أعظم السلاطين في العصر الإسلامي الوسيط، وكان له دور كبير في تغيير الخريطة السياسية والعسكرية في منطقة البحر المتوسط.
سيرة الظاهر
ولد بيبرس البندقداري نحو عام 625 هـ/1228م، ويعود أصله إلى بلاد شعب القبجاق (المنحدر من آسيا الوسطى، لا سيما كازاخستان)، وجُلِب صغيرا إلى دولة المماليك بمصر والشام.
وبيبرس عاش حقبة قاسية في التاريخ الإسلامي، وتضافرت عليه ظروف وأعداء أشداء، ولكنه استطاع هزيمة الصليبيين والتتار في المعارك التي خاضها ضدهم، ابتداء من معركة المنصورة سنة 1250م، حيث شارك في أسر الملك لويس التاسع قائد الحملة الصليبية السابعة على مصر، وكان أحد أهم قادة معركتي عين جالوت 1260م، والأبلستين ضد المغول سنة 1277م، التي انتهت بانتصار ساحق لبيبرس ودخوله قيسارية (وهي مدينة جنوب حيفا)، وإنهاء خرافة “الجيش المغولي الذي لا يقهر”.
وأحيا الظاهر بيبرس الخلافة في مصر بعد أن قضى التتار على عاصمة العباسيين في بغداد، وتوفي 676 هـ/1277م، عن 54 سنة.
الدستورية المعمارية
ويقول أستاذ الآثار المتفرغ بكلية الآداب جامعة عين شمس حسام إسماعيل للجزيرة نت “لعب الملك الظاهر دورا كبيرا في الانتقال بمصر إلى دولة سياسية تحكم الشرق والشام، وتكون مقرا للخلافة الإسلامية، ولما أراد أن يؤسس لهذه الحقبة رأى بفطنته ضرورة توسيع عاصمة ملكه، وآية ذلك أن يكون بصورة معمارية، فعزم على إنشاء مسجده في مكان مميز على شاطئ النيل حينئذ، في أقصى جنوب القاهرة، وفي المكان المحبب لنفسه، وهي ساحة اللعب الخاصة به”.
وكتب المقريزي في كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار- الجزء الرابع “وفي ربيع الآخر، يعني سنة خمس وستين وستمائة، اهتمّ السلطان بعمارة جامع بالحسينية، وسير جماعة من المهندسين، لكشف مكان يليق أن يعمل جامعا، فتوجهوا لذلك واتفقوا على مناخ الجِمال (الإبل السلطانية)”.
وأضاف المقريزي “فقال السلطان لا والله لا جعلت الجامع مكان الجِمال، وأولى ما جعلته ميداني الذي ألعب فيه بالكرة وهو نزهتي، فلما كان يوم الخميس ثامن شهر ربيع الآخر، ركب السلطان وصحبته خواصه والوزير والقضاة ونزل إلى ميدان قراقوش، وتحدّث في أمره وقاسه ورتب أموره وأمور بنائه، ورسم بأن يكون بقية الميدان وقفا على الجامع”.
المسجد الثاني
ويعلق الدكتور إسماعيل “بدأ الملك الظاهر بيبرس في إنشاء مسجده عام 1268م/667 هـ، في الحي الذي يحمل اسمه في قلب القاهرة، ويشبه في تخطيطه جامع أحمد بن طولون، من حيث الصحن المحاط بـ4 إيوانات وتعلو محرابه قبة ضخمة. وكان اهتمام الظاهر ببناء مسجده يفوق الوصف، حتى أنه جلب له الرخام والأخشاب من قلعة يافا في فلسطين، بعد أن استعاد المدينة من الصليبيين عام 1268”.
وعلى الرغم من أن القاهرة بها ما يزيد على 5 آلاف مسجد وجامع حسب تعداد المساجد في وزارة الأوقاف المصرية، فإن جامع الظاهر بيبرس يعد ثاني جامع من حيث المساحة والضخامة بعد جامع أحمد بن طولون، حيث يبلغ طول الجامع 108 أمتار وعرضه 105 أمتار، وضلع قبته 20 مترا، وهي أكبر قبة مقامة فوق محراب، وللمسجد 3 بوابات رئيسية بارزة عن الواجهات الثلاث، عدا الواجهة الجنوبية الشرقية، حسب الدكتور حسام إسماعيل.
صدفة.. أم انتقام؟
ويتحدث خبير التراث الدكتور خالد عزب للجزيرة نت عن شخصية الظاهر بيبرس وظروف إنشاء مسجده الكبير، ويقول إن “الظاهر بيبرس شخصية أسطورية؛ فهو المؤسس الحقيقي لدولة المماليك والبطل الحقيقي لمعركة المنصورة، والبطل الذي أسر الملك الفرنسي لويس التاسع قائد الحملة الصليبية السابعة على مصر لإخضاعها كمقدمة للسيطرة على بيت المقدس”.
ومن مفارقات التاريخ، وبعد قرون طويلة من زمن بيبرس، عمدت الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م (بقيادة نابليون) إلى تخريب مسجده وتحويله لقلعة حربية ومعسكر للجنود، ولم يتغير حال الجامع لأكثر من قرنين من الزمن، ومؤخرا جرى الانتباه لضرورة إعادة الجامع لهيئته الأولى، وتقدمت دولة كازاخستان بدفع 10 ملايين دولار لإعادة الترميم، ولكن المبلغ لم يفِ بكل التجديدات فأكملت الدولة المصرية بقية الترميمات.
ويضيف الدكتور عزب “لعل احتفاء دولة كازاخستان بالظاهر بيبرس ليس فقط لأنه من أبناء تلك المنطقة، ولكن لأنه أعاد الاعتبار لمنطقة آسيا الوسطى التي اجتاحها المغول ودمروها، فاستطاع أن يهزم الصليبيين ويطارد فلولهم، ويقضي على المغول في معركتين حاسمتين قضت عليهم وأنهت أسطورتهم الوحشية”.
وعندما فكر الملك الظاهر في إنشاء الجامع، اختار له أفضل موقع، وهو مكان لعبه وتنزهه الذي يقع على الخليج المصري؛ أحد فروع النيل، مع حدود قناة أمير المؤمنين (قناة سيزوستريس بين البحر الأحمر ونهر النيل)، حيث كان النيل يشغل منطقة الزمالك وبولاق، وممتدا حتى منطقة الفجالة وجامع الفتح بمنطقة رمسيس، والخليج المصري مكانه الآن شارع بورسعيد (وسط القاهرة)، فكان في أرض خلاء أقصى شمال القاهرة، ولا شيء بعدها سوى المزارع والصحراء، وهي منطقة غير مأهولة بالسكان، فكانت جرأة منه لدفع الناس ليعمروا المنطقة وليضيفوا للعاصمة بعدا جديدا من الحسينية للظاهر، حسب الدكتور عزب.
صحن و4 إيوانات
وعن التكوين المعماري لجامع الظاهر بيبرس، يقول طارق المرِّي مهندس استشاري الترميم والحفاظ على التراث والمشرف على ترميم جامع الظاهر بيبرس للجزيرة نت “يتكون الجامع من صحن أوسطي مكشوف محاط بـ4 إيوانات أكبرها إيوان القبلة بالجهة الجنوبية الشرقية من المسجد الجامع ومساحته 3570 مترا مربعا، و60 عمودا رخاميا، بالإضافة إلى 34 عمودا تحمل القاعدة التي تم بناء القبة عليها”.
ويبقى الإيوان الشمالي الغربي الأقل بمساحة 1040 مترا مربعا، وبوابته كانت تعلوها المئذنة وبه 16 عمودا رخاميا ومدخل بالواجهة الحجرية، أما الإيوانان الشمالي الشرقي والجنوبي الغربي فهما الأصغر في المساحة، حيث تبلغ مساحة كل واحد منهما 880 مترا مربعا، وبكل إيوان 16 عمودا رخاميا ومدخل بالواجهة الحجرية، حسب المُرِّي.
معسكر ومخبز ومدبح
وأضاف المُرِّي أنه “لما دخل الفرنسيون القاهرة عمدوا إلى الجامع فاستخدموا مئذنته للمراقبة، واتخذوه قلعة ومعسكرا للجنود، وبقي المسجد مخربا حتى جاء محمد علي باشا فأنشأ به مصنعا للصابون، ومع احتلال الإنجليز مصر حولوه إلى مدبح، وأصبح يعرف باسم “المدبح الإنجليزي”.
وتابع “لم يبق من ركام جامع الملك الظاهر إلا “باكية” (قنطرة) واحدة على يمين القبلة، رممتها لجنة حفظ الآثار العربية التي شكلها الخديوي توفيق، واعتمدنا على رسوم وتصميمات اللجنة في الرجوع للتصميم الأساسي الذي كان عليه المسجد قبل هدمه”.
الجامع كما بناه الملك الظاهر
ويضيف المهندس طارق المرِّي “بدأت المشروع من بدايته وسلمته سنة 2000، وتم طرحه للتنفيذ سنة 2006، وكان هدفنا في التصميم الوصول لأعلى درجة من الإنجاز للحالة الأولى للمسجد، مستعينين في ذلك بتصميمات المهندس الإنجليزي كرزويل عضو لجنة حفظ الآثار من خلال تصميمه للمسقط الأفقي للجامع، ومن ثم استخدام ما يقرب من 800 متر مكعب من الخشب العزيزي المستورد من أميركا الجنوبية لأعمال الأسقف، بالإضافة إلى مواد وخامات لمعالجة المقصورة النادرة التي تتقدم المحراب، وتشغل 6 أروقة من المسجد”.
ويتابع “ما يميز المسجد أن الواجهات الحجرية للجامع تتحلى بزخارف حجرية نباتية وهندسية رائعة الجمال، والجامع يزخر بالعديد من الشبابيك الجصية ذات شريط قرآني، ويبلغ عددها من الداخل 72، منها 14 شباكا أثريا بإيوان القبلة و3 شبابيك من أعمال لجنة حفظ الآثار العربية بالجدار الشمالي الشرقي للجامع، ويلتف الشريط القرآني الأثري من سورة الأنعام حول الشبابيك الجصية الأثرية من الداخل بالجزء الأيسر من إيوان القبلة”.
ويختم “بعد انتهاء الترميمات والتجديدات، من المتوقع أن يتم افتتاح المسجد في يونيو/حزيران المقبل في احتفال دولي كبير يحضره عدد من الشخصيات الدولية، على رأسها الرئيس الكازاخستاني”.