فتاة العباسية: حب نجيب محفوظ الذي لا ينتهي
في حياة نجيب محفوظ، كانت هناك قصة حب غريبة ومعقدة، قصة حب أحادية الجانب، لا يتوقع منها أي استجابة. كان حبًا يشبه التقديس والتفاني، حبًا لا ينتظر من الطرف الآخر شيئًا، تمامًا كما نحب الشمس التي لا تدرك وجودنا ولا نتوقع منها أي شيء. وعلى الرغم من غموض هذه العلاقة، إلا أن تأثيرها في حياة محفوظ كان عميقًا وظل يرافقه حتى آخر أيامه. كانت تلك الفتاة، التي أسميها “فتاة العباسية”، الحضور الأبرز في معظم أعماله الأدبية.
“فتاة العباسية” في حياة نجيب محفوظ
تحدث نجيب محفوظ في مناسبات قليلة عن هذه الفتاة في سيرته الذاتية، حيث ذكرها في كتاب “نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته” للكاتب رجاء النقاش. وفي أحد المقتطفات، يروي محفوظ قائلاً: “في العباسية، عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني”. وكان محفوظ في بداية مرحلة المراهقة، وكان يلعب كرة القدم مع أصدقائه في الشارع، في حين كانت “فتاة العباسية” تطل من شرفتها. يقول محفوظ: “كنت في سن الثالثة عشرة وهي في العشرين، جميلة من أسرة معروفة، وكان جمالها يشبه لوحات فنية تثير الإعجاب”. استمر حبه لها عامًا كاملاً من بعيد دون أن يجرؤ على التحدث إليها أو لفت انتباهها إلى مشاعره، وعندما تزوجت، أصيب بالصدمة، لكن حبه لها استمر في قلبه رغم مرور الزمن.
تجسيد القصة في الأدب
كانت هذه القصة واضحة في رواية “قصر الشوق”، الجزء الثاني من “الثلاثية”، حيث تجسد شخصية “عايدة شداد” في الرواية رمز “فتاة العباسية”. ويمثل حب “كمال عبد الجواد” لها تجسيدًا حقيقيًا لذلك الحب المستحيل. لكن، لم تقتصر هذه الفتاة على “قصر الشوق” فقط، بل كانت حاضرة في العديد من أعمال محفوظ، بدءًا من مجموعته القصصية الأولى “همس الجنون”، وظلت تلاحق وعيه مع تقدم الزمن، حتى في آخر أعماله “أحلام فترة النقاهة” (2005).
ظهور “فتاة العباسية” في “أحلام فترة النقاهة”
في “أحلام فترة النقاهة”، تتجسد “فتاة العباسية” في عدة أحلام. في حلمه رقم 18، يراها في قارب بخاري يسير في نهر الحياة، حيث تحل محل الملاح. لكن مع مرور الوقت، تختفي هذه الفتاة في الزحام، كما اختفت من حياته الواقعية في شبابه، ليكتشف الراوي أن الحلم تحول إلى مشهد غريب حيث يظهر ملّاح عجوز بدلًا منها، مما يرمز إلى نهاية رحلة الحياة وتقدم العمر.
في حلم رقم 83، تأخذ “فتاة العباسية” شكل عربة تجرها خيل مجنح، في تحول رمزي يعكس مكانتها الأسطورية في خيال محفوظ. ينتقل حلمها من العباسية إلى درب قرمز في الجمالية، ويأخذها إلى ارتفاعات عالية، بينما يظل محفوظ يراقبها من بعيد، غير قادر على الوصول إليها. حتى في الحلم، تظل الفتاة جميلة وغير قابلة للوصول.
وفي حلم رقم 84، يظهر محفوظ في “شارع الحب”، حيث يتجول بين قصور وحدائق لكنه لا يجد قصر “معبودته”. يتحول القصر إلى جامع عظيم، في إشارة إلى تحول حب محفوظ غير الممكن إلى شعور بالروحانية والتقديس. وفي نهاية الحلم، يكتشف أن حذاءه قد فُقد، مما يمثل الهزيمة النهائية لحلم طالما كان بعيد المنال.
هذه القصة، رغم أنها تمثل حبًا غير ممكن، إلا أنها كانت محورية في حياة نجيب محفوظ، ولعبت دورًا كبيرًا في تشكيل أفكاره الأدبية والفلسفية. تظل “فتاة العباسية” رمزًا لذلك الحب المفقود، الذي لا يكتمل أبدًا، ولكنه يستمر في الوجود ويلاحق صاحبها طوال حياته.