“أهل الله”.. رحلة أميركية في المدن والحياة الليبية أواخر زمن الملكية
أغنس المرأة الأمريكية التي عاشت في ليبيا نحو تسع سنوات متصلة، أحبت هذا البلد جدا، ولم يكن الاستعداد لمغادرته بالأمر السهل، حتى إنها تمنت أن تأخذ معها كل شيء من الأشخاص والبيوت وفندق المهاري (وسط طرابلس)، وصوت المؤذن وهو يدعو للصلاة، والمدن الليبية التي زارتها مثل بنغازي، والبيضاء وغدامس، وسوكنة.
تعد كتابة المذكرات والسير الذاتية مصدرا مهما لوصف الأحداث التاريخية، ورغم أنها لا تبدو قادرة على تقديم صورة شاملة ودقيقة للواقع، فإنها تسلط الضوء على جوانب مهمة في الحياة، وتوفر وجهات نظر متباينة، وتركز على التفاصيل التي تكمل سياق التدوين التاريخي.
وتسعى دار الفرجاني للنشر إلى الاهتمام بالحياة الليبية والبحث فيها، عبر تقديم عدد من الإصدارات المختلفة، منها: “المنفى الذهبي: بالبو في ليبيا” للدكتور مصطفى رجب يونس، و”عملية إدريس: من داخل أروقة الإدارة البريطانية في برقة وليبيا 1942-1952″ للكاتب ريتشارد سينغ، وترجمة علي العياطي.
تبدأ الكاتبة الأميركية أغنس نيوتون كيث (1901-1982) كتاب “أهل الله”، بتساؤل: “كيف وقعتُ في حالة حب جارف مع بلاد الله هذه، هذا الموقع الجغرافي الذي يصعب العيش فيه؟ (لكن… الله أكبر)”.
حالة حب
وتشير إلى أن ما دفعها إلى كتابة هذه المذكرات هي حالة حب وارتباط عميق مع ليبيا أو “بلاد الله”، على الرغم من المناخ الصحراوي الصعب، إضافة إلى بساطة العيش حيث يقود الليبيون سيارات “الجاغوار” و”ألفا روميو”، كما يركبون الإبل والحمير، والبعض منهم لديهم في بيوتهم أثاث من طراز لويس الخامس عشر، وهناك آخرون يقطنون الكهوف أو الخيام السوداء، ومنهم من يحصل على منح للدراسة الجامعية، بينما كثيرون لا يعرفون حتى كتابة أسمائهم.
في هذا الكتاب الصادر عن (دار الفرجاني ـ الطبعة الأولى ـ 2022) الذي ترجمه إلى العربية المترجم الليبي فرج الترهوني، تؤرخ أغنس لحقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في 3 أقاليم ليبية، هي: برقة وطرابلس وفزان.
ينقسم الكتاب إلى 5 أجزاء معنونة كالتالي: مدينة الله، وعطلة الله، وأهل الله الفقراء، وأصدقاء من عند الله، ونفط الله.
ويرى المترجم فرج الترهوني أن أغنس نيوتون محايدة وموضوعية في رؤيتها وحُكمها على المسائل المختلفة وعلى الناس، والمدة الطويلة التي قضتها في ليبيا تؤهلها تماما لإبداء الأحكام في المسائل المختلفة، ويبدو من محتوى الكتابة أنها أحبّت البلد وأهله.
ويشير الترهوني إلى أن الفترة التي قضتها في ليبيا كانت مختلفة تماما عن زمننا الراهن، وأنه رغم “فقر الليبيين وتعاستهم” (آنذاك) فإنهم كانوا أكثر لطفا وموضوعية في التعامل في ما بينهم ومع الأجانب، ويورد تلك الحادثة عندما كانت الكاتبة تحضر احتفالا بعيد الاستقلال في بنغازي حيث أسلوب وصفها للمحتفلين والأهمّ إصرار الجمهور على إخلاء مكان لها في المقدّمة لرؤية أفضل.
“أمة متحضرة”
أغنس المرأة الأميركية التي عاشت في ليبيا نحو 9 سنوات متصلة، برفقة زوجها هاري الخبير الفني بمنظمة الأغذية والزراعة بين عامي 1955 و1964؛ أحبت هذا البلد جدا، ولم يكن الاستعداد لمغادرته أمرا سهلا، حتى أنها تمنت أن تأخذ معها في رحلتها إلى فيكتوريا (المكان الأخير بعد تقاعد زوجها) كل شيء عاشت معه من الأشخاص والبيوت وفندق المهاري (وسط طرابلس)، وصوت المؤذن، والمدن الليبية التي زارتها مثل بنغازي، والبيضاء، وغدامس، وسوكنة المشهورة في تاريخ تجارة الرقيق، ونالوت التي قالت عنها “ليس لها مثيل في كل ليبيا، وتقع على قمة جبل نفوسة الأحمر، والتي تشبه عش النسور”.
لم تكن أغنس تتردد في طرح آرائها وأفكارها حول ما يخص الحياة السياسية والاجتماعية في ليبيا، وحسب مقدمة الكتاب فإنها “كانت تدون بصدق، وبعيون امرأة تنتمي إلى الحضارة الغربية وما عاصرته خلال سنوات إقامتها المتواصلة في ليبيا، وترى أن الأمة الليبية غير عنيفة، وأنها متحضرة بكل المقاييس، باستثناء موقفها من وضع المرأة والتعليم والسفور في هذا البلد الذي يتسم بتقاليد غير قابلة للنقاش أو التحدي”.
ولدت أغنس نيوتون كيث (1901ـ 1982)، في ولاية إلينوي بالولايات المتحدة الأميركية، ووثقت ملاحظاتها وخبرتها في سلسلة مقالات شخصية تم نشرها في كتابها الأول “أرض تحت الريح”، والثاني “ثلاثة عادوا إلى الوطن” الذي تحول إلى فيلم سينمائي، وكتابها الثالث “الرجل الأبيض يعود”، وهذا الكتاب الذي صدر عام 1965. وتعد هذه الترجمة هي الطبعة العربية الأولى.
التفاصيل الصغيرة
ويشير المترجم فرج الترهوني إلى أن الترجمة الحرفية لعنوان الكتاب هي “أبناء الله” (Children of Allah)، لكنني رأيتُ بعد نقاشٍ مع الناشر أن من الأنسب أن يكون العنوان “أهل الله”، وهو القصد من توصيف الكاتبة لليبيين بذلك من تداخل مشيئة الله مع حياتهم ومعيشتهم وأفعالهم.
وبسؤاله عن اهتمامه بترجمة كتب تتحدث عن ليبيا، مثل: “المجند”، و”الشاطئ الرابع”، وهذه المذكرات؛ يجيب “هناك توصيف شائع للترجمة أميل له بحكم مهنتي السابقة كبحّار، وهو أن الترجمة مثل سفينة تنقل الكنوز الثمينة من منطقة إلى أُخرى، فعن طريقها تُكتشف ثقافات الحضارات الأخرى، وعلومها وفنونها”.
ويضيف “في هذا السياق تحديدا يأتي الاهتمام بترجمة الأعمال المتعلقة بليبيا، أي معرفة جوانب من تاريخنا الاجتماعي والسياسي، والأهم من ذلك هو كيف يرانا الآخرون في كتاباتهم عنا”.
ويضيف “أجمل الأوقات التي أعيشها هي عندما أكون منخرطا في ترجمة عمل ما، حيث أعايش العملية بكل أحاسيسي؛ فالترجمة متعة لا يعرف كنهها إلا من سلك طريقها وكابد معاناتها، حيث قضيت نحو عام مع هذه الرحلة الممتعة”.
ويتابع الترهوني “في مثل هذه الأعمال التي ترجمتُها وأعمال كثيرة أخرى مشابهة؛ يمكن للمرء أن يتعرف على أدق التفاصيل حول طبيعة الحياة في ليبيا، بعيون أجنبية، من حيث المأكل والمشرب والنواحي الاجتماعية والسياسية، فالكُتّاب الأجانب -وجلّهم من أوروبا- لديهم اهتمام توثيقي بالتفاصيل الصغيرة في حياة الشعوب الأخرى. وكمثال على ذلك كتاب: عشر سنوات في طرابلس للمؤرخة البريطانية الآنسة توللي”.
وصلت أغنس مع زوجها هاري إلى طرابلس في سبتمبر/أيلول 1955، قادمة من روما، وكان في استقبالها رياح القبلي، أما أول المعلومات التي سمعتها عن البلد فكانت من زميل لزوجها سبق له السفر إلى ليبيا عدة مرات.
أخبرها زميل زوجها عن الشاي الليبي القوي الذي يسبب قرحة المعدة، وأنه لا يجب شرب الماء من الصنبور، وأوصاها بالحذر من القمل الذي يوجد في “الجرود والفراشيات”، وقال لها إن الليبيات ملزمات بتغطية وجوههن والعيش في عزلة، وإن الملك محمد إدريس السنوسي ينظر إليه كقديس، و”الملكة الأولى” صالحة وجميلة ولكنها لا تنجب أطفالا، وأما مسألة قيام ثورة، فذلك غير ممكن ما دام الملك حيا”.
ودونت الكاتبة إلى جانب تلك الانطباعات ما كانت تعرفه عن ليبيا من التقارير الإخبارية عن “الفنادق من الدرجة الثالثة”، و”المطاعم غير الجيدة”، و”البيوت سيئة التجهيز، التي لا تتوفر بسهولة”، إضافة إلى نصيحة أخرى وهي “أحضري معك أدويتك الضرورية”.
وفي الطريق من المطار إلى طرابلس التي كانت تبعد 32 كيلومترا عن المطار حيث كانت المحطة الأولى فندق المهاري (وهو اليوم من أفخم الفنادق في العاصمة) كانت لدى أغنس أمنية وحيدة، وهي كوب كبير من الماء البارد، سواء كان من الصنبور أو من صنبور الاستحمام (الدش) أو حتى من حوض الاستحمام!
ضاحية جورجمبولي
تقول أغنس نيوتون كيث -التي عاشت 30 عاما تتنقل بين عدة دول نامية- إن “الناس البدائيين نابضون بالحيوية أكثر من نظرائهم في الدول المتطورة”، وإن “الكتابة عنهم أكثر سهولة، فهم على الأقل أقل تذمرا حينما يعتقدون أنك تؤذيهم، لكن في ليبيا البلاد نفسها غير متطورة، ومع ذلك فصفة البدائيين لا يمكن إطلاقها على الناس هناك، فأغلبهم ينحدرون من واحدة من أولى الحضارات في العالم”.
وتقول الكاتبة الأميركية إن ليبيا ليست وحدة جغرافية ولا عرقية، وولاياتها الثلاث “ملتصقة ببعضها البعض بسبب الكراهية المتبادلة أكثر من الحب المشترك”، على حد تعبيرها.
وفي خضم بحثها عن بيت مناسب تجولت في أنحاء مدينة طرابلس حيث الشوارع من دون أسماء، والبيوت من دون أرقام، وكان المطلوب استخدام حس الاتجاهات إذا أرادت وصف مكان سكنك لأحد. واستقرت في ضاحية صغيرة تسمى “جورجمبوبلي” بالقرب من “قرقارش” (حي ساحلي غرب طرابلس) التي ما زالت محتفظة بالتسمية نفسها.
تعاملت أغنس بلطف وود مع كل الليبيين الذين قابلتهم، حتى إن الصبي الصغير محمد الذي جاء للعمل لديها كان يناديها: “أمي”، وكانت تعلمه بعض المفردات الإنجليزية، وفي المقابل علمها بعض الجمل العربية من نوع الترحيب والتوديع وطلب إحضار القهوة وأسعار المواد الغذائية في السوق.
رافقت أغنس زوجها في رحلاته الميدانية إلى الصحراء التي رأت فيها لوحات فنية رائعة، وفي “غات” تعرفت على الطوارق وعاداتهم. وهي واحة يتمتع فيها الرجال والنساء بحرية التنقل، والنساء غير منقبات ويعملن في السوق ويتمتعن بقوة العزيمة، كما أشارت في كتابها.
وأفاد المترجم فرج الترهوني بأن مذكرات أغنس الحية هذه كتبتها عن شعب ضارب في التاريخ، يكافح من أجل إنجاح تجربة وحدة ناشئة لبلاد منقسمة على نفسها، ويناضل من أجل تحقيق الذات، في ظلّ ملك عجوز وحكيم.
ما يميز كتاب “أهل الله” أن أغنس نيوتون كيث استطاعت تقديم الجانب الاجتماعي من حياة الليبيين في تلك الفترة: كيف تسير حياتهم اليومية، وكيف يتم النظر إلى المرأة، إضافة إلى أنه رحلة في المدن الليبية.