منازل الفلسطينيين التاريخية تباع عقارات فاخرة لأثرياء إسرائيليين
حيفا- تتربع مدينة حيفا كشلال متدفق على المنحدرات الخضراء الغنية لجبال الكرمل على البحر الأبيض المتوسط الأزرق الساطع.
وغالبا ما يصفها المسؤولون الإسرائيليون ووسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية بأنها مدينة عصرية ونموذج لـ “التعايش” بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
لكن وراء ناطحات السحاب والمباني الخرسانية المصفوفة في حيفا، تروي مجموعة صغيرة من المنازل الفلسطينية -التي بنيت بالحجر الرملي قبل عام 1948- قصة مختلفة.
سقطت حيفا تحت سيطرة المليشيات الصهيونية في أبريل/نيسان 1948، قبل 3 أسابيع من النكبة وتوقيع إسرائيل على إعلان استقلالها في 14 مايو/أيار، وانتهاء الانتداب البريطاني في فلسطين في 15 مايو/أيار.
بحلول ذلك الوقت، أجبرت القوات الصهيونية أكثر من 95% من سكان حيفا على الرحيل والخروج من أرضهم. ومن أصل 75 ألف فلسطيني بالمدينة، لم يبق سوى نحو 4 آلاف. وأصبح الباقون لاجئين، لا سيما في لبنان وسوريا المجاورتين، ومُنعوا من العودة حتى يومنا هذا.
وخلال أحداث النكبة والعقود التي تلتها، دمرت القوات الصهيونية والإسرائيلية معظم الأحياء والمباني الفلسطينية في حيفا وسوتها بالأرض.
وتم تدمير المركز التاريخي للمدينة العريقة تقريبا، وأصبحت المنطقة اليوم ساحة حديثة من المباني الحكومية والتجارية الإسرائيلية وموقفا كبيرا للسيارات.
على سبيل المثال، تم بناء مبنى مكون من 29 طابقا يضم مكاتب حكومية عام 1999 على أنقاض “سرايا حيفا” التي بُنيت منتصف القرن 18 كمبنى إداري ومقر للحكم المحلي وتم هدمها عام 1949، وكانت واحدة من 9 مباني سرايا في فلسطين التاريخية يعود تاريخ بناؤها إلى الحقبة العثمانية.
ويقول مخطط المدن عروة سويطات “لقد قاموا ببناء المباني الحكومية على أنقاض المباني العربية الفلسطينية، أي المباني التي تم تدميرها ومحوها خلال النكبة”.
وأضاف سويطات الحاصل على الدكتوراه في تخطيط المدن والمناطق المعمارية والذي يعمل على منع المزيد من عمليات الهدم “اليوم، لا يوجد أثر لهذه الجريمة الكبيرة”.
“11 مبنى بقيمة 20 مليون دولار”
وفقًا للمؤرخ الحيفاوي جوني منصور “لا يزال 20% فقط من منازل حيفا الأصلية قائما” وتم نقل ملكية المباني الفلسطينية التي نجت من النكبة إلى الدولة بموجب قانون ممتلكات الغائبين الإسرائيلي.
ولم يكن هذا الأمر مقتصرا على حيفا، إذ استولت إسرائيل على جميع الممتلكات الفلسطينية التي غادر أصحابها مرغمين إما لاجئين أو نازحين.
ويقول سويطات “في المدن التاريخية مثل حيفا ويافا وعكا، تمت مصادرة حوالي 70 ألف مبنى تاريخي بعد 1948” وأوضح أنه من بين المباني التي كانت قائمة عام 1948، لا يزال هناك 4800 فقط اليوم.
وشرح الخبير العمراني قائلا “جميع المباني في أيدي الدولة. تم هدم الباقي أو بيعه لشركات العقارات الخاصة. في يافا، لا يزال هناك نحو 1200 مبنى فقط، و600 في حيفا، و600 في عكا وحوالي 350 في الناصرة”.
ويعيش الإسرائيليون الآن في بعض المباني التي كانت تأوي الفلسطينيين من أبناء حيفا القديمة، وتحول بعضها إلى معارض فنية إسرائيلية وحانات.
منذ عام 2000، بدأت الحكومة الإسرائيلية في بيع المباني الفلسطينية المتبقية لشركات العقارات العامة والخاصة التي ستقوم إما بهدمها وبناء مشاريع سكنية أو تجارية حديثة في مكانها، أو تجديدها وبيعها عقارات فاخرة للسوق الإسرائيلي.
وقال سويطات “إنهم يحولون أطلال النكبة إلى جواهر اقتصادية لصالح السوق الإسرائيلي” مشيرا إلى أن “عملية التطوير تهدف إلى جذب اليهود من الطبقة الوسطى والعليا وطرد العرب الفلسطينيين”.
وأضاف عضو لجنة المحافظة على المباني التاريخية في بلدية حيفا “عملت كل من القوانين الإسرائيلية وتخطيط المدينة معا على الاستيلاء على ممتلكات وأراضي اللاجئين الفلسطينيين ومحو وتدمير وتشويه وتحويل الهوية العربية الفلسطينية وخصائصها في حيفا إلى القطاع الخاص”.
وما من مكان تتجلى فيه قصة السلب والمحو أكثر من وادي صليب، وهو حي فلسطيني كان مزدهر سابقا ويبدو وكأن الزمن قد توقف فيه منذ النكبة، إذ تقف المنازل الحجرية كناجين صامتين، وتطل على البحر المتوسط على بعد حوالي كيلومتر واحد.
وتم هدم معظم الحي، عام 1949، واستقدمت إسرائيل يهودا من دول شمال أفريقيا لاستغلال المنازل والمباني الفلسطينية المتبقية، وعاشوا هناك 10 سنوات قبل أن تندلع احتجاجات ضد ظروف المعيشة الصعبة والعنصرية، وتم نقل القاطنين إلى مكان آخر.
ومنذ ذلك الحين، تم إغلاق معظم المباني الفلسطينية بواسطة كتل خرسانية أو تغطيتها بألواح معدنية.
وفي العقود السابقة، تم بيع كل ما تبقى من وادي صليب من قبل الحكومة الإسرائيلية إلى شركات عقارية خاصة وعامة.
وقال سويطات “يقدمون عطاءات كبيرة جدا لا يمكن دخولها إلا للشركات الكبيرة ولا يستطيع الفلسطينيون تحمل التكلفة. على سبيل المثال، تم بيع 11 مبنى تاريخيا قبل 10 سنوات مقابل مليون دولار. اليوم، يريدون بيع المباني الـ 11 مقابل 20 مليون دولار”.
“كيف حدث هذا لنا؟”
الفنان الفلسطيني التشكيلي عابد عبدي يبلغ من العمر 81 عاما، طُرِدَ من وادي صليب وفلسطين بأسرها مع والدته و4 من إخوته عام 1948.
وتمكن والده من البقاء في حيفا، وبعد 3 سنوات من التنقل في مخيمات اللاجئين بلبنان وسوريا، أصبح عبدي ووالدته و3 من إخوته من بين عدد قليل من الفلسطينيين الذين تم السماح لهم بالعودة لمدينتهم في عملية لم الشمل الأسري.
ومع ذلك، لم تتمكن لطفية أخت عبدي الكبرى من العودة وظلت في مخيم اليرموك للاجئين في سوريا حتى وفاتها قبل 3 سنوات.
يقول عبدي للجزيرة “تذوقنا النزوح والاغتراب في لبنان وسوريا” وأضاف من الإستوديو الخاص به في حيفا “تم تفريق عائلتنا مثل العديد من العائلات الفلسطينية من حيفا في ذلك الوقت”.
من عام 1947 إلى 1949، طردت القوات الصهيونية ما لا يقل عن 75% من السكان الفلسطينيين، ودمرت 530 قرية فلسطينية، وأجبرت السكان على الخروج من المدن الرئيسية وقتلت حوالي 15 ألف فلسطيني في سلسلة من جرائم الإبادة الجماعية، شملت العديد من المجازر.
واليوم، يمثل اللاجئون الفلسطينيون أطول مشكلة لجوء لم تتم تسويتها في العالم. ويعيش حوالي 6 ملايين لاجئ مسجل في ما لا يقل عن 58 مخيمًا بفلسطين والدول المجاورة.
وأول مخيم للاجئين وصل إليه عبدي وعائلته كان مخيم المية مية في لبنان، يقول وهو محاط بالعشرات من لوحاته: الكثير منها يصور النكبة والأحياء العربية في حيفا، بناءً على ذكريات طفولته.
ويضيف عبدي الذي أدرج قماش الجوال في قطع فنه “أتذكر أن الفواصل بين العائلات كانت مصنوعة من قماش الجوال. عندما ألمس وأشم هذا النسيج الآن، يعيدني إلى طفولتي، وبقيت هذه الذكرى معي طوال حياتي “.
وتابع “أتذكر أيضا كيف كانت والدتي تصنع لنا الأحذية من الحقائب الجلدية”.
وجُمع العديد من الفلسطينيين الذين بقوا في حيفا بعد النكبة، بما في ذلك والد عبدي، وأجبروا على العيش في حي وادي النسناس. ولم يُسمح لهم باستعادة ممتلكاتهم بأجزاء أخرى من المدينة التي كانت تحت سيطرة الحكم العسكري الإسرائيلي، وحظر للتجوال المستمر.
وانتقل والد عبدي إلى منزل خالته بوادي النسناس، على بعد بضعة كيلومترات من منزلهم المدمر بوادي صالح. وشارك في المنزل المكون من 4 غرف نوم مع عائلة فلسطينية مشردة أخرى من حيفا.
وعندما عادت باقي عائلة عبدي عام 1951، عاش الستة منهم في غرفة نوم واحدة لمدة 10 سنوات قبل أن يتمكنوا من الانتقال.
ورغم مرور أكثر من 7 عقود، قال عبدي إن الفقد والتشرد الذي تسببت فيه النكبة لا يزال صعبًا للغاية. وأردف “كنت أعود إلى وادي صالح كثيرا. المنطقة ليست بعيدة عني. كنت أتذكر طفولتي ومأساتي”.
وختم “عندما أراها، أشعر دائما بشيء ليس فقط حزنا، ولكن تكرار سؤال الكيف؟ كيف حدث هذا لنا؟ هذه المباني الفارغة والمدمرة، أين أصحابها؟ كيف تم طردنا؟”.